مدخل: لا تكتب عن أشخاص.. أكتب لنا كلنا.. لا تكتب عنهم.. أكتب عن همومنا وقضايانا.. فإني أخشى على قلمك الجموح من إسار الذات ومحابس الاخوانيات!.. رسالة (SMS) من صديق مشاكس فقال أتبكي كل قبر رأيته لميت ثوى بين اللوى والدكادك فقلت له إن الشجى يبعث الشجى فدعني فهذا كله قبر مالك متمم بن نويرة يبكي أخاه مالك. نص: ولأني ضد التوثيق كما يقول مالك بن نبي وضد عبادة الذات كما يقول نزار.. أكتب هذه المرة عن قيمة اسمها عبد الحليم الصديق، أكتب عن المثال حينما يصبح مفردة واقعية.. أكتب عن الخيال الذي تدركه الأعين.. أكتب عن جوهر دائم يبقى رغم فناء الأجساد والأعراض.. أكتب عن حلم عابر وعن طيف لطيف، أكتب عن روح محض أسكنها الجسد ضرورة الخلق.. أقول أكتب ولا أقول أنعي مع أن الرثاء هو أصدق الوشائج الإنسانية، وهل من صدق أدل من مداد الدموع وخلجات النفوس، وأنين الأحرف والكلمات.. وفوق هذا وذاك أكتب عن رجل لا أعرفه.. عن رجل لم ألقه إلا لماماً.. بيد أنني أدركه كقيمة متجاوزة للذوات، وهو إدراك لم ينف عني شعوراً عميقاً بالحزن على رحيله، وهو شعور جمعي خيَّم على شركة شيكان، ورهط من عملائها الكرام، حزن واعٍ لا يُقال معه إلا ما يرضي الله.. ولأن عبد الحليم الصديق رجل من غمار الناس كرس جل طاقاته، وأنفق وقتاً وجهداً كبيراً، واستفرغ وسعاً في قضاء حوائج الناس، حينما كان رئيساً للهيئة النقابية للعاملين بالشركة، وكان منحازاً لقضايا العاملين انحيازاً إيجابياً، في ظل إدارة هي منحازة أصلاً لعمالها، وقد تبلورت ملامح شخصيته القيادية التي أعادت للأذهان صورة ود المكي، مع الفوارق الكبيرة في الأدوار والأجواء المحيطة بكلا القامتين، ولكن هذه الصفة تبلورت أكثر عندما انتقل إلى إدارة فرع الشركة بالكلاكلة، وارتقت قيمة (قضاء حوائج الناس والسعي في مسائلهم) من (حدود) المؤسسة وهموم عمالها، إلى رحابة المجتمع المثقل بمشكلات الحياة ووعثائها، وصار في عرف الوكلاء والمنتجين والعملاء المباشرين، مثالاً يحتذى في تماهيه مع قيم التكافل، وارجاعها إلى سياقها الحضاري، فقد أفسد الغرب صناعة التأمين، وأفرغها من محتوياتها القيمية، وأحالها من معادلة متكافئة، إلى معادلة ذات نتيجة صفرية تعني: ربح طرف مقابل خسارة طرف آخر، مما جعل الصناعة التأمينية تدور كلها في مدار ماذا تفعل شركات التأمين، حتى لا تكون هي الحلقة الأضعف.. وهنا تكمن قيمة عبد الحليم وإخوانه، في الاسهام الوافر في تأسيس الممارسة التأمينية على تقوى الله ومخافته، وعلى أن الوظيفة في شركات التأمين التعاوني تعني: إسداء خدمات جليلة للمجتمع، ولذلك فعبد الحليم وأقرانه الكرام هم السبب القريب والمباشر- وفق اللغة التأمينية- الذي يفسر سر نجاح التجربة التأمينية في السودان، (نشوءاً وارتقاء)، وهي تجربة تسير بخطى حثيثة نحو غاياتها بفضل نموذجها الطيب الذي لم تكدره تعقيدات الحياة، وشبكات اللصوص، والمرتزقة، التي تعتاش بالغش والتزوير، وهيهات أن تنال مرادها، فعبد الحليم القيمة سيكون لهم بالمرصاد.. قال لي أحد أصدقائه الأصفياء: إن حليماً كان كائناً أثيرياً لم يكن يعبأ باغراءات الدنيا ومفاتنها، ولم يكن يهم كثيراً للاشكالات الناجمة عن العمل في سوق التأمين، وكان حسب تعبيره (نجيض) لا تنطلي عليه حيل الماكرين، بيد أنه كان كثير الاستشهاد بمقولة ابن الخطاب رضى الله عنه (أنا لست بالخب والخب لا يخدعني)، لذا فقد بكته شيكان، إحدى أهم بؤر التنوع المؤسسي في سوداننا الحبيب.. بكته رجالها بدموع الأسى وعبرات الفراق.. بكته حواء الشيكانية كما لم تبك أحداً من قبل، وأسالت سيول دموعها الرقراقة.. ويا ابن عبد الوهاب إننا ندرك مخاطر الشخصانية لدرجة التفكير في استصدار وثيقة تأمين ضد مخاطر الارتهان للفرد..!! على أن يكون تأميناً اجبارياً.. ولكنا كذلك نؤمن بسنة الاقتداء (الجمعي) باجيال الجهابذة العظام، ونؤمن بالفرد القيمة عوضاً عن قيمة الفرد، ولذلك سوف لا نفتأ نكتب عن أمثال شيخ الضرير.. وشيخ البيلي.. وشيخ عثمان.. وعن كل من أثرى سوح الفكر والعمل.. سنكتب عنهم للتعريف بهم وبأفضالهم.. سنكتب ذلك لأنه من حقوقهم علينا ومن حقوقنا عليهم.. ولأن الكتابة عنهم هي في حد ذاتها قيمة.. لكنا نعدك ألا نرتهن إلا لصاحب القبر المشهود، والحوض المورود والشفاعة الكبرى.. ويا حليم نم قرير العين، فقيم التكافل تعمل بفضل قيمتها الذاتية، وتنتشر في أرجاء الشرق والغرب.. اللهم أن عبدك عبد الحليم نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه.. اللهم عامله بما أنت أهله، ولا تعامله بما هو أهله، وأغفر لنا وله يارب العالمين.