يعتبر هذا الرجل العصامي ذاكرة حية لكمتبات الخرطوم منذ اوائل الستينيات، فهو بدأ طالبا للعلم بحلقات العلوم الدينية التي كانت ذات قيمة علمية كبيرة في ذلك الوقت،حيث تتلمذ علي يد الشيخ عبد الوهاب السراج رحمه الله، وغير بعيد عن المكان في مكان سوق الذهب الحالي كانت مكتبة النهضة الشهيرة لصاحبها محمد عباس ابو الريش تفتح ابوابها لطلبة العلم والمثقفين ولعامة الجمهور ممن يحبون الاطلاع والقراءة، وهي واحدة من اربعة مكتبات كانت توجد في قلب الخرطوم في ذلك الوقت فقط من اجل عيون القارئ. جلس عوض الكريم احمد محمد عوض الكريم الشهير ب(عوض بيارة) يحدثني عن ايام لها ايقاع ومداد، ثم اخذ يحكي عن ذكرياته مع الكتب وروادها بمكتبة النهضة التي اصبحت الان في طي الزمن واثرا بعد عين، ثم قال:جالت عيناي علي امهات الكتب المرصوصة بعناية مع بداية العام (1962) م، امهات الكتب،الاغاني لابي فرج الاصفهاني،البداية والنهاية لابن كثير، الحيوان للجاحظ،احياء علوم الدين للغزالي،وغيرها،كان الاجر يكفي والحياة بسيطة،اما رواد المكتبة فمنهم مولانا العالم عبدالوهاب السراج ،والشيخ مجذوب مدثر الحجاز، و كان الشاعر الهادي ادم ياتي لشراء كتب الادب،فالمكتبة حافلة باشعار نزار قباني وايليا ابوماضي، ولم تخل من كتب عباس محمود العقاد،الا ان ذكريات الطبيب والاديب والتشكيلي والعالم الفذ الراحل التجاني الماحي مازالت عالقة بذهن عوض الكريم، فنقلني فيما يشبه الفيلم السينمائي القصير عن هذا الراحل العظيم الذي كان قارئا نهما للكتب، يدخل من باب مكتبة النهضة مرتديا لبنطاله وبذلته يجول بنظرة خبيرة علي عناوين الكتب، ثم يمد يده الي احدها كمن اصطاد سمكة من ذوات الحجم الكبير،وهنا يسال التجاني الماحي عوض الكريم عن مؤلف هذا الكتاب، وبعد ان يخبره عوض الكريم باسم مؤلفه ياخذ التجاني في التحدث عن هذا المؤلف حديث الخبيربل ويسهب في الحديث عنه وعن اسم اساتذته وتلاميذه والعام الذي طبع فيه مؤلفه، ليختم اخيرا بان هذا الكتاب موجود بمكتبته الخاصة الا انه ضاع منه فيقوم بشرائه مرة اخري . وبعد ان صمت عوض الكريم لبرهة قال لي لقد كان الراحل التجاني الماحي بحرا في العلوم،وذوخلق رفيع، يوجز لك رسالته في جملة مفيدة وبسلاسة فتحقق هدفها،ويواصل في ذكر بعض من اعلام السودان كانوا من رواد مكتبة النهضة، منهم بروفسير يوسف فضل حسن والراحل جعفر محمد علي بخيت وسارة المهدي والامين ناصر جماع مدير مكتب الشيخ عوض الله صالح وهو ابن اخت الشاعر الراحل ادريس جماع ومسؤول برابطة العالم الاسلامي باقطار السودان واريتريا واثيوبيا وكذلك الشيخ الياقوت محمد مالك كان ياتي لشراء كتب التفاسير والفقه، والكتب نفسها طبعت في القاهرة، لكن اكثر ما ميز طلاب ذلك الزمان كما يقول هو ان الواحد منهم يدخر من مصروفه فتجده يرتدي نعالا (مقطوعة) كل ذلك من اجل شراء كتاب. ولاتخلو دنيا المكتبات من مواقف وطرائف فحكي لي ان المجلات والصحف المصرية كانت في ذلك الوقت توزع علي المصالح الحكومية،ويضيف كنا نبيعها للموظفين وويدفعون ثمنها في اول الشهر اي بعد صرفهم للمرتبات، فنقوم بكتابة اسم الكتاب واسم الزبون، وفي احدي المرات اشتري موظفا كتاب (ذهب مع الريح) لفيكتور هوجو، والموظف اسمه الطاهرقطبي، فكتبنا علي الورقة (الطاهر قطبي ذهب مع الريح)، بعد ذلك توسعت المكتبة فاتينا بالكتب من بيروت،واستمر العمل بهذا الشكل حتي العام (1977)م بعد ان قل الاقبال علي اقتناء الكتب، فاتجهت للعمل في بيع الادوات المكتبية مع احمد جيلاني محمد احمد وفتحي السيدعبد الكريم في مكتبة باوقاف جامع فاروق، ثمالتقيت بالرجل الصالح خالد المصري الفكي يوسف ففتحنا مكتبة (المدينة) للادوات المكتبية حيث اختار لنا الاسم العارف بالله الخليفة عثمان ودبدر،ثم تحولنا الي مكتبة (الهنا) للادوات المكتبية وايضا اختار لنا الاسم الولي الخليفة عثمان وماتزال قبلة للاحباب وللمشترين حيث يديرها ابني البكر محمد، اخيرا لن يدلك احد هناك ان سالت عن عوض الكريم احمد وذلك لان اسم شهرته (عوض بيارة) وهذا الاسم اشتهر به في ام ضوابان وانحاء العاصمة الخرطوم.