إن الاتفاق الذي وقعَّت عليه في مدينة عنتبي اليوغندية أربع دول من دول المنبع، وهي يوغندا، واثيوبيا، ورواندا، وتنزانيا، يعتبر طعنة بخنجر مسموم في ظهر دولتي المصب السودان ومصر، وانتهاك واضح للمواثيق الدولية، التي تم التراضي عليها في بواكير القرن الماضي، وتحديداً في عام 1902م وهو أقدم اتفاق عرفته دول حوض النيل، وتلاه اتفاق آخر في عام 1929م، وظل الأخير سارياً وملزماً لكل الأطراف التي وقعت عليه، ومن بينها السودان، حيث احترمت الحكومات المتعاقبة هذا الاتفاق، وكان بمثابة الزام والتزام، أما الإتفاق الأخير فهو غير ملزم، سواء للسودان أو مصر، وقد أعلنتا تمسكهما بالحقوق التاريخية واستخدمات مياه النيل حسب الاتفاقات الآنفه الذكر، وسيظل إتفاق عنتبي ثرثرة فوق النيل، ولكن علينا في دولتي المصب ألاَّ نقلل من شأنه ونصمت، ونستكين، ونتوقف في محطة الشجب والإدانة، وإنما على دولتي المصب -السودان ومصر- أن يكون لهما حراك شامل في كل الاتجاهات وفي كافة المحافل الدولية، حتى لا نقع في انشوطة المخطط الجهنمي الإسرائيلي، الذي أوحى لدول المنبع الأربع لإتخاذهم هذه الخطوة، ليكون حصادها نوعاً قاهراً من الضغط على مصر، لإرغامها على الموافقة على إنشاء قناة تعبر بها مياه النيل سيناء لتصل الى اسرائيل، ومن ثم يتحقق الحلم الإسرائيلي المجازي بدلاً من الحلم المكاني الذي ينصب خيمته على الإرث الماثولوجي، والفكر الآني لإسرائيل، ومفاده المقولة الشهيرة(أرض الميعاد.. من النيل الي الفرات) وتأسيساً على ذلك فإن حاجة اسرائيل للمياه العذبة ستظل حلمها الأكبر، خاصة بعد أن فشلت مخططاتها في نهر الليطاني وتحويل مجراه، ومن ثم اتجهت اسرائيل بكلياتها الى إثارة الذوابع المائية، وتأجيج الصراع بين دول المنبع والمصب، وهكذا وبكل تأكيد يقود هذا الى الكثير من المشاكل الفنية والعملية، والصراع بالنسبة للدول الموقعة عن اتفاق عنتبي، وذلك في مواجهة المجتمع الدولي الذي ساهم بدعم مشروعات كبرى في دول حوض النيل، بلغت تكلفتها أكثر من مليار دولار. إذن كان لابد من العودة الى طاولة المفاوضات، توطئة للخروج برؤية وفاقية يمكن أن تضع الحصان أمام العربة لا خلفها، وتصبح طاولة الحوار هي سيدة الموقف الآني والمستقبلي، حتى لا يحدث تحت الطاولة ما لا تحمد عقباه، وهو اشتعال فتيل حرب المياه التي يمكن أن تدور رحاها في أي وقت، إذا لم تتم إدارة الأزمة بالحكمة والتعقل وضبط المواقف، وذلك تلافياً لما يمكن أن يكون، وليس بعيداً عن الذاكرة الأفريقية التهديد الخطير الذي وجهه الرئيس الراحل انور السادات للرئيس السابق منقستو هايل مريام، بمسح العاصمة الاثيوبية أديس أبابا من الخارطة، إذا أصر منقستو على إنشاء أكبر سد في افريقيا، وقد نجح التهديد، وتجمد الموقف على ماهو عليه، ورحل السادات وأصبح في ذمة اللّه، بعد حادثة المنصة الشهيرة، ورحل منقستو وأصبح في ذمة التاريخ بعيداً عن بريق السلطان وشهوة الصولجان.مما تقدم كان وسيكون خيار الحوار والجلوس الى طاولة المفاوضات حتمياً، ولعل اجتماع وزراء الري لدول حوض النيل الذي انعقد في الاسبوع الثاني من ابريل 2010م بمنتجع(شرم الشيخ) بالشقيقة مصر كان قد عبَّد الطريق إلا قليلاً بين دول المنبع ودولتي المصب السودان ومصر، ولكن بقيت الأزمة تراوح مكانها دون حل، إذ إن دول المنبع قد تمسكت بوجهة نظرها في إعادة النظر في حصص مياه النيل في دول حوض النيل، ولعل الذي أثلج الصدور حقاً في محادثات (شرم الشيخ) أن 90% من النقاط الملتهبة كانت قد قللت درجة حرارتها نسائم منتجع (شرم الشيخ) وتبقت بعض القضايا التي لم تفلح نسمات المنتجع في تلطيفها، ومن أبرز هذه القضايا إنشاء مفوضية لدول حوض النيل خلال ستة أشهر، ويتم التوقيع على أمر إنشائها لاحقاً، وأثار هذا الأمر نوعاً قريباً من رياضة(شد الحبل) بين دول المنبع ودولتي المصب السودان ومصر، والحقيقة التي لابد من ذكرها هنا أن السودان ومصر لم يرفضا إنشاء المفوضية، ولكنهما أكدا رغبتهما في ترحيل القضايا العالقة الى المفوضية وكيفية بحثها، والمفوضية نفسها لابد لقيامها من موافقة برلمانات دول حوض النيل عليها، وفي الاعتقاد العام أن فترة الستة أشهر التي حددت لقيام المفوضية غير كافية، وربما يحتاج هذا الأمر الى عام كامل، ومن ثم أصبح قيام المفوضية نفسها مثار جدل واسع في اجتماعات(شرم الشيخ) التي لم تفلح نسمات هذا (الشرم) وحكمة ذاك (الشيخ) في تلطيف حرارة المحادثات.. اذاً كان لابد من أن تلوح دائرة للضوء في نهاية النفق، ولعل السودان وبحسبانه واحداً من أعظم دول القارة السمراء، التي تحتشد فيها جيوش الشمس والضياء على مدار العام إلا قليلاً، كان قد تقدم بمبادرة جاءت بمثابة دائرة للضوء في نهاية النفق، وقد تم تضمين هذه المبادرة في (منتس) الإجتماعات، ولحسن الطالع قد وافقت مصر على هذه المبادرة، ولم تبد بقية الدول رفضها، وتدعو المبادرة السودانية الى التوقيع على اتفاق اطاري يمكن أن يقود الى اتفاق نهائي يرضي كافة دول حوض النيل.. أما بالنسبة الى مطالبة دول حوض النيل السبع بالغاء الاتفاقيات الموقعة السابقة باعتبارها وقعت إبان فترة الإستعمار. إن اتفاق عنتبي الذي وصفته آنفاً بأنه ثرثرة فوق النيل، ينبغي لدولتي المصب السودان ومصر أن يتخذا الإجراءات الضامنة لإثبات حقهم التاريخي المكتسب من مياه النيل، خاصة وأن القانون الدولي له القدرة النافذة على إقرار هذا الحق، ويمكنه الإيعاز للمؤسسات الدولية التمويلية بعدم الموافقة على تمويل مشروعات المياه، دون إخطار وموافقة الدول الأخرى.. هذه ناحية.. أما الناحية الأهم فإن المانحين وكافة الدول الغربية كانوا قد أصدروا وثيقة بيان في يونيو من العام الماضي 2009م دعوا فيها دول حوض النيل الى ضرورة الاتفاق فيما بينهم، كما وعدوا بعدم تمويل أي مشروعات للمياه في الدول الآنفة الذكر، وذلك ريثما يتم الاتفاق فيما بينهم.والسودان وبحسبانه يمتلك إرثاً مرجعياً في أمر مياه النيل، أصبح يحظى بقبول وافر من كل دول حوض النيل، وهذه المرجعية تعود الى عام 1939م الذي شهد الاتفاق الثاني والذي ظل سارياً، وفي عام 1990م أصدرت حكومة الإنقاذ الوطني قانوناً أطلقت عليه اسم قانون الري والصرف، وبعده بخمس سنوات اي في عام 1995م الغت الحكومة قانون 1939م، وأصدرت قانون الموارد المائية في عام 2002م، حيث أصدر السيد رئيس الجمهورية قراراً تم بموجبه تشكيل لجنة وزارية عليا برئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية، وتعنى هذه اللجنة بالموارد المائية، كما أن للسودان كفاءات حقوقية وقانونية رفيعة تعمل في مجال المياه، وأذكر من هذه الكفاءات على سبيل المثال لا الحصر الدكتور أحمد المفتي، الذي كان قد شارك في القمة المائية التي انعقدت بمنتجع (شرم الشيخ) والدكتور أحمد المفتي هذا الفتي الأسمر الوشاح القادم من مدينة دنقلا، وهو يحمل تذكارات بلده (جرادة) وفيها قبة وضريح الشيخ (حاج بخيت) شمالي دنقلا، وهي موطن والده الشيخ محمد عمر المفتي، هذا الشيخ الطيب الورع الذي أنجب للسودان أبناءاً بررة هم الأستاذ حسين المفتي ربيب بنك السودان، والمدير العام السابق لبنك التنمية التعاوني الإسلامي، والشيخ المفتي منسق الدفاع الشعبي الاتحادي الاسبق.. التحية لهما والتحية مسبوقة للدكتور أحمد المفتي نجم محادثات (شرم الشيخ) والخبير القانوني الدولي الشهير.