حينما يغير الإنسان ما يألف.. يصعب عليه التأقلم مع الجديد في البداية أو بصورة مؤقتة.. فيتدثر بالشجن المر.. ويستشعر الوحدة..و تظل ذكرياته الماضية تتراقص حياله تقض مضجعه.. وتكدر عيشه..! ولأنه كائن اجتماعي ولوف.. يحب التغيير.. فسرعان ما يتجانس مع الجديد وينسلخ تدريجياً من القديم المعتاد.. وتخف وطأة الأشجان ويصبح مر الذكريات أخف حدة.. وبمرور الأيام تتكلس الذاكرة التي كانت متوهجة في البداية ويغطيها غبار النسيان.. وتصبح كل تلك الأوجاع من الماضي الذي كان.. هكذا «الإنسان سُمي إنساناً لأنه ينسى» والنسيان من رحمة الله على العباد.. فلو ظلَّ كل ما يؤلم من الذاكرة بنفس القوة الأولى فلن يحتمل الإنسان الذي خُلق ضعيفاً..! يضطر أغلب الناس للاغتراب عن الديار والوطن لأسباب كثيرة.. ويعاني الغريب- ولا أقول المغترب- الأمرين من آهات وأوجاع.. وذكريات.. البلد.. الأهل والأحباب.. يعاني فرقة الإلفة والمحنَّة والدفء.. وتبقى في حضن الذاكرة.. شجرة قديمة.. منازل ربما تكون متهالكة.. وشوارع بائسة.. ورمال مستكنة هي أقصى غايات المنى..! وأنت في غير وطنك.. تفتقد الشعور بالكيان والهوية.. وتتراجع درجة المواطنة من الأولى حتى الثالثة.. ويظل في أعماقك خوف من القوانين التي لا ترحم الغرباء.. ويزاحم الخوف في الدواخل.. شعور بالفراغ اللانهائى الممتد بلا حدود..! لكن بلسم الزمن ذاك العلاج الشافي الكافي لكثير من الأوجاع يضمِّد ذاك «الحريق المشتعل» بمياه باردة.. فيسكن.. إلى مدى ثم يعاود.. التوهج.. وهكذا حتى يصيبه الخمود.. بمخدر قوي يخفي كل الحنين.. فينهزم حد التلاشي.. وعندها تصبح الغربة «هي الوطن الجديد» فيتعود الإنسان.. على أرض غير أرضه.. وأناس غير أهله فيتبدل حنينه جفوة.. ودياره ذكرى.. وعظيم أوجاعه وخزة..! كم من غريب هاجر ليحقق أحلامه هو وغيره.. وقد وعد بأن أقصى مدة لاحتماله هي قليل سنوات.. فآثر البعد وتعوَّد على ما أوجعه في البداية ففاقت سنين غربته وجوده في وطنه.. يتغير الناس.. وتتغير حتى الأماكن.. فإن دوران الأرض حول محورها كل يوم تتبدل فيه آلاف الأشياء..! إن الغربة الحقة ليست تلك التي يمكن الاعتياد عليها بالبعاد بالإجساد.. «إنها غربة الروح».. حين يفرض عليك الزمان بأن تعيش تحت سقف واحد.. أو أن تعمل مع أناس لا تآلف أو تمازج روحي بينهم.. يحلقون في وادي.. لا تعرف أنت بوصلته.. ولا طريق الوصول إليه!.. الغربة هي غربة الذات.. حين يفقد الإنسان نفسه ويظل تائهاً متخبطاً لا يجد لأشرعته مرسى..! الغربة أن تتحدث مع الصُم.. وأن تفقد همزة التواصل مع نفسك.. والأهل والأحباب وكل المجتمع..! زاوية أخيرة: غربة الروح هي أقسى غربة.. يعيشها الإنسان.. حين يفقد القدرة على العطاء.. وإسعاد الآخرين.. غريب الروح يمشي إلى الأمام خطوة ويتعثر خطوتين!!.