بدا لي إصرار الحكومة على استمرار التفاوض في منبر الدوحة «بمن حضر» هو من قبيل «القُحة ولا صمَّة الخشُم»، أو إذا شئنا التفاؤل هو من قبيل «كل حركة معاها بركة»، فقطعاً الحكومة تعرف «زي وجع بطنه» أن من تتفاوض معهم لا يمثلون العناوين الرئيسية أو القوى المؤثرة في النزاع المسلح الدائر في دارفور، وتدرك أن من بيدهم أن يضعوا حداً لذلك النزاع ليسوا هم أولئك الذين تجمعوا، بعد جهد الحكومة والوسطاء القطريين والدوليين في ما عُرف أخيراً ب«حركة التحرير والعدالة»، أو على الأقل هم جزء من المشكلة وليس كل المشكلة. لكن إصرار الحكومة على استمرار التفاوض هذه المرة هو لإبقاء ملف التفاوض حيَّاً، لأسباب أهم من نتائج المفاوضات الفورية، فالحكومة عينها على الجنوب واقتراب موعد الاستفتاء مع مطلع العام المقبل الذي لم يبق منه سوى ستة شهور، وتدرك كذلك الارتباط الوثيق بين ما يجري في دارفور وعلاقته بالمساعي المبذولة -على شُحِّها وصعوبتها- من أجل جعل الوحدة جاذبة، أو على الأقل الحصول على «طلاق مدني» أو مفاصلة وديّة لا تقود إلى إشعال الحرائق.. يعني الحكومة «نايْمالَه فوق رأي». لكن جماعة «التحرير والعدالة» برضهم «نايْمنلَهم فوق رأي»، ويعرفون أن ما يقومون به ليس أكثر من عملية «تسخين وإحماء» انتظاراً ل«الحل الشامل والعادل» لقضية دارفور، عبر أطراف أخرى لا تزال تأبى وتتمنع من الجلوس على طاولة المفاوضات، ولكل منهم أسبابه ورؤيته الخاصة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه د. التجاني سيسي رئيس حركة التحرير والعدالة في خطابه في افتتاح جولة المفاوضات يوم السبت الماضي، وهو الخطاب الذي أورد بعض نصوصه الأستاذ محمد المكي أحمد مُكاتب «الأحداث» من الدوحة في مقال له يوم الأحد الماضي. ففي ذلك الخطاب، الذي يلخص رؤية جماعة التحرير والعدالة، قال السيسي حاكم دارفور الأسبق والقيادي السابق البارز في حزب الأمة القومي: إن مشكلة السودان في دارفور -لاحظ «مشكلة السودان في دارفور» وليست «مشكلة دارفور في السودان» أو «مشكلة دارفور» مجردة- هي مظهر من مظاهر القضية السودانية التي تجلّت في كل الهامش السوداني، وإن السلام هو خيارنا الاستراتيجي، وإن الحوار والتفاوض هما أفضل الوسائل لحل مشكلات الوطن»، لكن الأهم من ذلك هو قوله الصريح وعلى رؤوس الأشهاد، حكومة ووسطاء ومُسهِّلين عرب وأجانب، أنهم لن يقبلوا ب«توقيع سلام زائف مقابل وظائف أو مصالح ذاتية ضيِّقة، بل نريد سلاماً يشارك في صناعته أهلنا اللاجئون والنازحون ومنظمات المجتمع المدني والقوى السياسية الوطنية» -حلوة حكاية «القوى السياسية الوطنية»- فهي القوى التي ظلت مطرودة ومستبعدة من «جنة المفاوضات» منذ ماشاكوس ونيفاشا، وظلّت «تزازي» بين جدة والقاهرة حتى انتهت إلى اتفاقية «ما جايبة حقها» ولم تجد طريقها إلى التنفيذ فلا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت، لكن السيسي كان أكثر إفصاحاً عما يريد عندما دعا من وصفهم ب«رفقانا الذين لم يلتحقوا بركب الوحدة إلى أن يلتحقوا بنا لأننا نريد أن نتواضع -كما قال- على قاعدة عريضة تؤكد وحدتنا وتعزز وحدة السودان وتحقق السلام العادل والشامل والمستدام» والرسالة -حتماً- موجهة هنا لحركة العدل والمساواة بزعامة خليل إبراهيم وحركة تحرير السودان ومؤسسها عبد الواحد محمد نور، بعد أن أصبحت «ستين حركة وحركة». على كل لم ييأس القوم، والمفاوضات بدأت «بمن حضر»، وغاب عنها إلى هذه اللحظة حتى ممثلي اللاجئين والمدنيين، كما تقول آخر الأنباء الواردة من الدوحة، وكان ذلك سبباً في إعطاء الأولوية لملف «قسمة الثروة» دون ملف «الترتيبات الأمنية والأحوال الإنسانية» بحسب تصريحات شريف جار النبي أمين العلاقات الخارجية لحركة التحرير والعدالة، معتبراً ملف «الثروة» بمثابة «جس نبض للحكومة لمعرفة نواياها تجاه قضية السلام والتأكد من جديتها»، وهذاالقول في حد ذاته يؤكد غياب الثقة بين طرفي التفاوض، أو على الأقل في جانب «التحرير والعدالة» وإلا لما لجأت لجس النبض عبر «ملف الثروة»، لكنه «تكتيك» مقبول على كل حال، لأنه في حالة تقديم الحكومة تنازلات كبيرة ومغرية في «قسمة الثروة» فذلك قد يشكل حافزاً لبعض قوى الممانعة الدارفورية الأخرى للالتحاق بالمفاوضات، إلا أنه في كل الأحوال لا يمثل ضمانة أكيدة. لأن مثل هذه الضمانة لن تتوفر إلا إذا اتسع منبر التفاوض ليشمل -كما قال السيسي كل القوى الوطنية- وفوق هذا وذاك أن يتم تسييج نتائج المفاوضات بضمانات إقليمية ودولية توفر المطلوب في كل الملفات - قسمة الثروة والترتيبات الأمنية والقضايا الإنسانية والعدالة الانتقالية- وتوفر من بعد مانحين دوليين يتعهدون بتقديم ما هو مطلوب لإعادة الإعمار وتحريك عملية التنمية والإنتاج حتى يتمكن اللاجئون والنازحون من العودة لديارهم والانخراط في دورة الحياة المستقرة والمنتجة من جديد. وهذا يذكرنا بمبادرة «أهل السودان» التي انطلقت من كنانة قبل أكثر من عامين، ولكنها للأسف «ماتت» وشبعت موتاً، بعد أن قررت الحكومة أن تنفرد بالتفاوض مع حاملي السلاح وبعض النخب الثقافية الدارفورية وأهملت القوى السياسية الأخرى التي أشركتها في صياغة المبادرة الوليدة، فعندما جد الجد وقرّرت الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي اختيار الدوحة مقراً للمفاوضات، لم ترى الحكومة داعياً أو ضرورة لإشراك الآخرين، ففاوضت العدل والمساواة منفردة أيضاً بعد أحداث أم درمان، وأبرمت معها «اتفاق حسن النوايا» الذي لم يجد طريقه إلى التنفيذ، ثم أبرمت معها «الاتفاق الإطاري» ومشروع اتفاق لوقف إطلاق النار، ولكن كل ذلك تعثر لتشتعل الحرب من جديد في «جبل مون» وبطاح دارفور، وتحول زعيمها خليل إبراهيم في النهاية إلى ملاحق ومطلوب دولياً عبر الانتربول، فلجأ إلى طرابلس التي وفرت له الحماية، ليصبح هو وحركته «غير قابلين للصرف»، في «بنك الدوحة»، فكما قال الناطق باسم حركته أحمد حسين آدم إنهم لن يذهبوا إلى مائدة التفاوض مكرهين.ومع ذلك.. مع ذلك يبقى قرار الحكومة باستمرار التفاوض والإبقاء على منبر الدوحة حيَّاً قراراً لا يخلو من حكمة حتى لو من قبيل «القُحة ولا صمَّة الخشُم»، لأن صمة الخشم في هذا الوقت بالذات تعني بالضرورة «تجفيف الأمل» في وقت يحتاج فيه الناس وتحتاج البلاد لأي نفحة رجاء قبل حلول موعد الاستفتاء وعقابيله المخيفة.. فدعونا نتفاءل بالخير علنا نجده!