ابتُلِيت الدول العربية والإسلامية بأشكال وألوان من الجنون السياسي الذي حول حياة الشعوب في بعض تلك الدول إلى جحيم... ما حدث وما زال يحدث في أفغانستان منذ عهد حكومة طالبان وحتى الآن هو شكل من أشكال الجنون السياسي... وما يحدث منذ سنوات في الصومال شكل آخر من أشكال الجنون السياسي... وما حدث في 11 سبتمبر 2001م بالولايات المتحدةالأمريكية كان أيضاً شكلاً من أشكال الجنون السياسي... وما حدث وما زال يحدث في غزة من مواجهات حمقاء مع دولة إسرائيل يمثل شكلاً من أشكال الجنون السياسي... وما حدث وما زال يحدث من تفجيرات واغتيالات في العراق يمثل تياراً جنونياً... والآن ظهر في السودان تيار جنوني يحاول بكل الأساليب والطرق تحويل السودان إلى ساحة حرب وعداء وخصومات أبدية مع الكل... أصحاب هذا التيار الجنوني في السودان يقتحمون السياسة دون وعي وإدراك لماهيتها... فالسياسة علم الواقعية ولكنهم يريدونها مدينة فاضلة حتى ولو أُبِيد الشعب السوداني بأكمله... والسياسة علم لعبة المصالح ولكنهم يدمرون جميع مصالح السودان من أجل بناء مدينتهم الفاضلة. أهل هذا التيار هاجوا وماجوا بعد توقيع الاتفاق المبدئي بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان بأديس أبابا بالرغم من أن ما حدث يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح... فبغض النظر عن تفاصيل الاتفاق إلا أن مجرد خلق مناخ ودي وأخوي داخل غرفة التفاوض يعتبر أمراً إيجابياً لأنه يساعد على معالجة القضايا العالقة بين الدولتين دون توتر ولمصلحة الطرفين... لذلك كان علينا أن نقدم الشكر والتقدير للوفد السوداني المفاوض وللحكومة التي دعمت وأيدت روح الاتفاق والتزمت بالمضي قدماً في نفس الاتجاه الأخوي الودي... ولكن لماذا يعترض هؤلاء على هذا الاتفاق المبدئي؟ اعترض هؤلاء تحديداً على الإشارة لموضوع الحريات الأربع لمواطني الدولتين... ويعتقد هؤلاء أن وجود مواطني دولة الجنوب داخل دولة السودان سيعيق بناء مدينتهم الفاضلة وسيلوث مجتمع السودان «الملائكي» فكل الرذائل من صنع مواطني دولة الجنوب ومواطنو دولة السودان جميعهم ملائكة لا يعرفون الرذيلة... إنها نظرة عنصرية بائسة تطبق اليوم على مواطني دولة الجنوب وغداً على أهل دارفور وبعدها على أهل جبال النوبة وبعدها على غيرهم... فكل مَنْ يقف في وجه بناء المدينة العربية الإسلامية الفاضلة يجب أن يُبتَر كما بُتِر الجنوب. هؤلاء يطالبون الحكومة بإلغاء هذا الاتفاق المبدئي وطرد جميع مواطني دولة جنوب السودان وإعلان الحرب دون أي اعتبار لمصالح المواطنين المشتركة مع دولة الجنوب كالقبائل الرعوية بالمناطق الحدودية والتجار والمستثمرين الشماليين في الجنوب... أضف إلى ذلك تجاهلهم التام للمصالح الاقتصادية للدولة السودانية التي تضررت كثيراً خلال الشهور الماضية بسبب حالة التوتر السياسي بين الدولتين... أرجو أن يرصد هؤلاء حالة الانتعاش الاقتصادي الذي حدث خلال الشهور الماضية بالدول الإفريقية المجاورة لدولة جنوب السودان بسبب التوتر السياسي الذي أدى إلى تجميد العلاقات الاقتصادية والتجارية بين شمال وجنوب السودان... أضف إلى ذلك أن هؤلاء يدركون جيداً أن علاقة السودان بالمجتمع الدولي لن تتحسن في ظل توتر العلاقات مع دولة جنوب السودان... لماذا؟ ببساطة لأن المجتمع الدولي يدعم ويساند دولة جنوب السودان... وهذا واقع ومطلوب منا أن نتعامل معه بحكمة وبذكاء وليس المطلوب منا قبوله أو رفضه لأن قبولنا أو رفضنا للواقع الدولي لن يغير في الأمر شيئاً لأننا أصلاً دولة سيئة السمعة سياسياً لدى المجتمع الدولي... بل حتى الأوضاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق لن تهدأ في ظل علاقات متوترة مع دولة الجنوب... أليس هذا جنوناً سياسياً... أن تعمل على ضرب مصالحك الاقتصادية والسياسية بيدك وأن تخنق ذاتك وتدمر وطنك من أجل وهم سياسي كبير لا وجود له إلا في عقول هؤلاء. إن اتفاقية السلام الشامل مهما قيل عنها إلا أنها تعتبر من أعظم الإنجازات الوطنية طوال تاريخ السودان الحديث... وإجراء الاستفتاء على مصير جنوب السودان وقبول نتيجته في مناخ سلمي أيضاً يعتبر إنجازاً وطنياً يجب أن لا نقلل من أهميته... وقيام دولة جنوب السودان بعد أن اختار أهل الجنوب الانفصال لا يعني كما يريد هؤلاء أن نقطع علاقاتِنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية مع جنوب السودان... بل على العكس أقولها بكل وضوح أن الشرط الرئيسي والأساسي للاستقرار السياسي والاقتصادي في السودان هو العلاقات الودية الأخوية الطيبة مع دولة جنوب السودان بكل أبعادها وجوانبها... فالعلاقة مع دولة جنوب السودان ليست علاقة جوار عادية مثل العلاقة مع مصر أو تشاد أو إفريقيا الوسطى أو إثيوبيا وإنما هي علاقة خاصة مثل علاقتك مع ابنك الذي استقل بنفسه وشيد منزلاً مجاوراً لك... فهو جار والآخرون جيران لك ولكنه يتميز بأنه الجار الابن. رسالتي للأخوة بوفد التفاوض وبالحكومة وبقيادة الدولة السودانية أن يسيروا في طريق الحكمة والعقلانية والواقعية السياسية تحقيقاً لمصالح الوطن وأن يتجاهلوا أصوات الجنون السياسي التي تهدف إلى تدمير السودان الدولة والوطن من أجل السراب.