اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    "مطارات دبي" تدعو المسافرين التحقق من حالة رحلاتهم "الحالة الجوية السيئة"    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    من الزيرو إلى الهيرو    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    البنى التحتية بسنار توفر اطارات بتكلفة 22مليون لمجابهة طوارئ الخريف!    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    استمرار حبس البلوجر هدير عاطف بتهمة النصب على المواطنين    أحمد موسى: ده مفيش ذبابة ماتت من الصواريخ والمسيرات اللي إيران وجهتها لإسرائيل    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    إسرائيل تعيد فتح المدارس!    حفظ ماء وجه غير مكتمل    شاهد بالصورة.. إبن عضو مجلس السيادة رجاء نيكولا يحمل السلاح مدافعاً عن وطنه وجمهور مواقع التواصل يشيد ويعلق: (أبناء الإسلام والمسيحية في خندق واحد لحماية السودان من الجنجويد)    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    بعد راحة العيد...المنتخب الوطني يُعاود تحضيراته أمس    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    إعلام عبري: طائرات أميركية وبريطانية تسقط مسيرات إيرانية فوق الحدود العراقية السورية    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    والي الخرطوم يزور رموز ونجوم المجتمع والتواصل شمل شيخ الامين وقدامى المحاربين والكابتن عادل أمين والمطرب عوض الكريم عبدالله    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسرحية «حيطة قصيرة» : كراهة العنصرية ومجاز الفن!
نشر في الأحداث يوم 24 - 04 - 2012

نبش هذا العرض في ذاكرة الجميع صورة للكراهية تفوق توقعاتهم. فقد وضعها خلف عدسة مسرحية بلغة غارقة في لجة الموت. وبصدق فني تمكن من جعل هذا الواقع أكثر غرابة مما ينبغي، فحقق غايته الأولى.
أحدثت هذه المسرحية ردود فعل متباينة بين الجمهور والمختصين، فاتهمها البعض بالوقوع في فخ صناعة الكراهية الرخيصة، بينما قابلها البعض الآخر باستحسان ملحوظ ظهر في ردود أفعال الصالة التي لم تنقطع عن التصفيق والضحك برغم خشونة الموضوع الذي تناولته.
الحرب كما جاء في المسرحية، خلقت نوعاً من حالة الخوف الغريزي التي برًّر العرض عبرها حالة الانقلاب السلوكي المفاجئ بين الشخصيتين الرئيسيتين مع اقتراب نهايته.
«وما شر القوم والجماعة سوى التعريف عبر وسيط اللغة. وما اللغة سوى أنها الجماعة ومنظومة الألفاظ والإرشادات والإشارات وتعريف السلوكيات والموجهات العامة وفق تصورات وهم الجماعة. وبذلك فهي الصوت وهي المعنى والتأويل، كما هي في محيط المجاز، الرمح والسيف والسهم والنشاب. وهي أيضاً الدرع والنار والمنجنيق والحصن والأبراج والقلاع والمتاريس والستر والتمترس».
الوليد يوسف.
قبل رفع الستار:
ليس من العدالة في شيء، الاشتغال النقدي على عوالم العرض المسرحي بأفق مرتهن كلياً لهزال بائن في مرعى مقولات السياسة اليومية التي ترعى بلا راعٍ، بينما تفعل هذا، في أرضٍ جدباء على الدوام! وليس بطبيعة الحال للعرض المسرحي فكاك من هذا التجاور السياسي، مثله مثل بقية أنشطة الحياة الأخرى، طالما ظلَّ ينتج علاماته وفق سياقها الكلي ويموضع نفسه ضمن زمرة المشتغلين على تشخيص حالة الخراب القصوى التي يخلِّفها أفقها المسدود؛ فقط ترنو عوالم العرض المسرحي للاقتراب من هذه الأرض بمحراث صلب، يعيد تشكيل طبقاتها البور تدشيناً لنشاط خلاق، غايته إعادة بناء الواقع القبيح جمالياً، بوساطة بذر استعارات ومجازات حية في هذه الأرض الميتة، تستفز العقل والشعور بصدمات تبدو عليها القسوة المفرطة لكنها تستمد شرعيتها من قتامة هذا الواقع الذي تعيد تصويره وسوداويته، حتى يصبح قابلاً للفهم والتشخيص. ومثل هذا الجهد المطلوب يتم في هذه الحالة عبر بصيرة نافذة – أو هكذا ينبغي له - حتى يتمخَّض عن صورة ذهنية جمالية تؤهله لأن يكون عملاً فنياً ناجحاً في التواصل مع موضوعه بشيء من العمق وكثير من الدقة والقصديات المترابطة.
هذا ما أظنه قد حدث فعلياً أثناء مشاهدتي لعرض مسرحية «حيطة قصيرة» المقدم ضمن فعاليات مهرجان البقعة الدولي للمسرح يوم 27/ مارس 2012. وقد آثرت الكتابة عن هذا العرض لأنه حقق متعة كافية بالنسبة لي لمتابعته حتى النهاية بلا كلل، مع أنه وبطبيعة الحال المسرحي في السودان؛ لا تخلو عروضنا المسرحية بعامة من بعض مظاهر النقص الحتمي، الذي يفعل فعل الحشو أو التطويل غير المبرر غالباً، فيصبغ على القصة مسحةً باعثة على الملل والشرود والسهو، فتتفرَّق على قبائل مختلفة من الفكر والمعرفة، لتعيقك عن متابعة خط سير الأحداث، وفق تسلسلها المنطقي الذي تحتمه شروط الصنعة المسرحية نفسها؛ بحسب العباءة التي يرتديها العرض في صورته الفنية الأخيرة، والتي تظهر مقولاته الفكرية عبرها في نهاية الأمر.
العرض من تأليف وإخراج ماجدة نصر الدين كوكو، تمثيل: نايرة إسماعيل، إسراء عبد العزيز، عبد الجليل إسماعيل، نادر عبد الله العوض، التجاني عمر، بهاء الدين الناجي، أبوبكر دارس. صمَّم الصورة المشهدية لهذا العرض صلاح مصطفى، ماجدة نصر الدين، وساهر مصطفى، الموسيقى محمد خالد، وساعد في الإخراج عفراء سعد.
أحدثت هذه المسرحية ردود فعل متباينة بين الجمهور والمختصين، فاتهمها البعض بالوقوع في فخ صناعة الكراهية الرخيصة، بينما قابلها البعض الآخر باستحسان ملحوظ ظهر في ردود أفعال الصالة التي لم تنقطع عن التصفيق والضحك برغم خشونة الموضوع الذي تناولته. من هنا أستطيع أن ألمح، أن المخرجة والمؤلفة الشابة في مقتبل العمر، ماجدة نصر الدين والتي تخرجت من قسم الدراما بكلية التربية جامعة النيلين في العام 2009م تستعد بضراوة لبداية سيرة فنية مؤنثة لها نكهتها المختلفة منذ التجربة الاحترافية الأولى، ولها تماسها الجوهري مع أعقد قضايا المجتمع السوداني المعاصر: العنصرية وصناعة الكراهية المنظمة!
قصة المسرحية:
تدور أحداث المسرحية في ثمانية مشاهد متصلة، لتحكي لنا عبر حوار محمًّل بالاستعارات اللغوية ومشحون بانفعالات البداوة الشيِّقة! قصة من واقع علاقات التساكن والجوار في مناطق التماس التي تعيش فيها قبائل تنتمي لأصول عرقية مختلفة، تتنازع حول ملكية هذه الأرض. تحيل المسرحية عبر اللهجة المستخدمة في الحوار ودلالات الأسماء، إلى واحدة من أكثر مناطق السودان إثارة للحساسية في الوقت الراهن وهي منطقة «أبيي» التي تضم قبائل من المجموعات المستعربة والمجموعات الأفريقية مثل: (الدينكا والمسيرية).
اتخذت أبيي وضعية خاصة في دائرة الصراع السوداني بعد أن أحاطتها اتفاقية نيفاشا 2005 وظروف التعانف السياسي والاجتماعي الناشبة حولها بخصوصية زائدة كرستّها كمكانٍ مأزقي، ينبغي النظر إليه بالكثير من القلق! وقد قُدِّم الصراع في المسرحية موزعاً بين شخصيتين رئيسيتين هما شخصيتا «حَمْرَة» و»زَرْقَا». الأولى من القبائل المستعربة في المكان المُرمَّز ترميزاً لا يخلو من تشويش بحسب إحالات الأزياء التي ترتديها وبحسب أصوات اللهجة المنطوقة أثناء الأداء؛ والثانية إفريقية ترتدي أزياء قبيلة الدينكا وتضع إكسسواراتهم وتتكلم بلهجة (عربي جوبا) المألوفة.
تدخل الشخصيتان في صراع متكرر حول ملكية الأرض وحول مصادر المياه التي تمثلها «بئر» واحدة في أسفل يمين خشبة المسرح، يخرُج منها شخص ثالث تنم هيئته على أنه قدم من أواسط السودان، ليتضح بعد ذلك أنه يمارس حرفة حفر الآبار، وكنيته الدائمة في هذا العرض هي «الحفار»! فهو يُقدَّم كشخصية تسعى لخلق شقاق دائم بين «حمرة» و»زرقاء» مع أنهما يعاملانه بلطف. «الحفار» يتحرى الكذب دائماً مع الشخصيتين، وهو في حالة دائمة من الانهماك في التوجس، لا يراعي سوى مصلحته فقط، لكنه بالرغم من ذلك، لا يتورع عن إسداء النصح لكلتيهما، ونصحه دائماً ما يجلب المصائب!
تعكس المسرحية في لوحاتها الثمانية، تبدل الأحوال والمآل وانتقالات الصراع حول ملكية الأرض بلغة موغلة في المحلية صادقة في التعبير عن واقع الحال الذي آلت إليه هذه المنطقة في السنوات الأخيرة، كما تعمل عبر حوارها المكتوب بعناية فائقة على الكشف عن ما خلف هذا الصراع من نوازع إثنية تنهض على «نمط» الشخصية العنصرية التي تمثلها «حمرة» رمزياً كشخصية تظهر احتقاراً يستقر في الوعي بصفة يقينية، وتتمثله الثقافة التي تنتمي لها حمرة، كحاضنة أكثر اتساعاً لبذور كراهية تجسدها مقولات هذه الثقافة عبر الاستعانة بالأمثال الشعبية التي تميل إلى تصنيف البشر بحسب أصولهم العرقية، عبر منظومة متكاملة من القيم التي تفاخر بصناعة العنصرية في مشاهد صريحة لم تجد اللغة فيها مجازاً إلا وهو يحيل لحالة الشعور المريض بالتفوق على أساس العرق فقط!
قرب نهاية المسرحية يتصاعد الصراع بوتيرة متسارعة بتدخل السلطة المركزية فيه تدخلاً فوقياً لا يفهم طبيعة التنازع بين الطرفين، ويظهر السلاح في هذا الصراع الجديد، ويوجه ضد «حمرا» و»زرقا» نفسيهما هذه المرة، فتخيِّم أجواء الحرب على سماء المكان ويفترس الخوف الجميع.
الحرب كما جاء في المسرحية، خلقت نوعاً من حالة الخوف الغريزي التي برَّر العرض عبرها حالة الانقلاب السلوكي المفاجئ بين الشخصيتين الرئيسيتين مع اقتراب نهايته.
وفي حوار أجري مع المخرجة بصحيفة «الجريدة» يوم الاثنين 9 أبريل 2012م، أجابت المخرجة عن سؤال المحاور لها جرأة أفكار المسرحية التي أوقعتها تحت طائلة الاتهام بالعنصرية قائلةً: «لا أرى أبداً أن المسرحية تروِّج للعنصرية. ولكني في بعض مشاهد المسرحية حاولت تقديم ملامح حقيقية من واقع التعايش بين هذه القبائل التي تعيش في مناطق التماس. الذي عايش ويعرف أسلوب تعايش هاتين القبيلتين، يُدرك جيداً أن هذا الحوار الذي يدور بين الشخصيات مهما كان يحمل من عبارات ربما تُفسر على إنها عنصرية بعض الشيء، لكن هذا هو واقع التعايش وهذه هي اللغة المتكلَّمة. هذه الثيمة تبرز كثيراً في أدب الحكامات حيث كل طرف يدين الآخر».
فعلاً بالحوار الذي ينهض كأحد دعامات البناء الدرامي الرئيسية في العرض، نجد عبارات لم تعتدها الأُذن على خشبة المسرح السوداني بسهولة كوصف «حمرة» ل»زرقا» بكثير من الاستعلاء في وضعية الخطاب بأنها «غلفاء» مثلاً، و»بتشد المريسة» وجُمل أخرى أكثر عنصرية وأكثر حضاً على تجارة الكراهية الرائجة في سياق مشحون بالتراتب والعدائية، لكن بالفعل؛ هل لازلنا لا نحتاج لمثل هذه الجرأة التعبيرية طالما لا يفتأ طيفها العبثي يطاردنا مع كل صباح جديد!
عرف المسرح العالمي بصفة عامة مثل هذا النوع من اللغة الهستيرية لدرجة الصراخ والمبالغة والشحنات الانفعالية القوية التي تحملها الكلمات مع الكاتب السويدي «أوغست ستريندبيرغ» وبالخصوص في مسرحيته «الحلم»، سليلة الاتجاه التعبيري الذي وصفه النقاد بأنه انعكاس طبيعي لحالة الهزة الروحية والاجتماعية العميقة التي خلفتها الحرب العالمية الأولى، ولا اعتقد بأننا نبعد كثيراً من هذه الهزة نفسها في سياقنا الراهن، إن لم نكن قد تخطيناها بعد!
الرؤية الإخراجية وحديث الخشبة:
يفتح الستار على مكان جغرافي غير محدد الإحالة، مملوء باستعارات الموت والاستغاثة الدائمة. حيث تظهر أسفل يمين الخشبة بئر تمتد حوافها فوق سطح الأرض تتوسطها جمجمة، وتتخذ وضعية دعامات «الدلو»، هيئة يدين متشابكتين أعلى البئر، يخرج من هذه البئر «الحفار» وهو يحمل آلة الحفر الضخمة، وعلى يسار المسرح تنتصب شجرةً جرداء، كرمز شاخص للموت أيضاً لكن هذه الشجرة نفسها، منقسمة على جنسها في الحدود التي تعلو الساق، بحيث يظهر ما فوقها وكأنه أيادٍ بشرية تناجي مجهولاً ما، و كأنها تستغيث به.
الأيادي المستغيثة تنبت أعلى الساق في رؤية يمكن قراءتها في دلالة المزج بين الإنسان والنبات بطريقة الديكور الواقعي على تخوم التعبيرية!
على خلفية هذا المشهد وبإضاءة ثابتة حيناً ومتحركة في الحين الآخر، ينعكس جوهر الصراع العرقي عبر الحوار المشحون بانفعال كاريكاتوري بائن، ليضفي على تطور الأحداث بعداً رمزياً يضع في أفق توقعات الجمهور حالةً عامة من الشعور بكيدية الحدث ونهاياته المأساوية الطابع.
«حمرة» تستخدم كفتيرةً للشاي عبثية الملمح بغرض تغريب عادة شرب الشاي ووضعها شاخصة أمام الجميع ومؤكًّدة كواحدة من لوازم الثقافة التي تنتمي لها. وبعد وصول الأحداث منطقة تفجرها الحتمي، تستخدم المخرجة حوارات غنية برموز ودلالات تحيل جميعها إلى جذر الصراع بين عرقين مختلفين فهنالك قصص تتم إعادة بناءها وفق معطيات الأخذ والرد. و في أحيان أخرى يظهر استخدام الرقص والفنون التقليدية والإيقاع لتشخيص حالة ما تصوِّرها المسرحية في خط تطوُرها الدرامي، بينما تُنتَقى المؤثرات الصوتية وأغنياتها التراثية لتعضد حالة الشعور بواقع الحال المشار إليه.
نجحت الرؤية الإخراجية في تطوير والإحالة إلى جوانب الصراع المختلفة بالتوازي مع ما يخلِّفه الحوار من انتقال إلى آخر. كما نجحت أيضاً في بعث طاقة من الحيوية الدائبة في الفراغ المسرحي الذي ظل طيلة فترة العرض، ينتقل بنا من شكل ما لتَمظهُر هذا الصراع، إلى شكل آخر يختلف عنه في الشكل لكنه يؤكد على استمراريته كأرضية تتحرك فوقها كل أحداث المسرحية. فهو تارةً حالة ضرب مباشر بالأيدي، وتارةً أخرى يتكشَّف عبر صورة فنون قتالية أخرى كالمصارعة الحرة أو فن الكاراتيه.
حلبة المصارعة الحرة المصنوعة من الحبال في هيئتها المربعة، تتوسط خشبة المسرح بينما تتخذ حمرة أوضاعاً حرفية عالية الكوميدية والسخرية من أكليشيهات هذه اللعبة العنيفة. ترتد تارة بعد أن تَهِمُ بإلقاء ظهرها على حبال الحلبة، وتارةً أخرى تقفز لتسديد الضربة القاضية على الخصم الملقي على الأرض ببطولة كاسرة واستعراضية الطابع.
في هذه الأثناء تستخدم المؤثرات الصوتية موسيقى تعمل على تعزيز حالة العنف الناشبة بين الطرفين بينما تعمل الإضاءة على كسر رتابة الصورة بجعلها أكثر بطئاً في الحركة وأكثر قرباً من حالة «التغريب» التي يضفيها استخدام هذه الفنون القتالية في الحرب الناشبة أساساً على خلفية العرق.
وعلى الرغم من واقعية الحوار الذي يلعب دوراً رئيسياً في تطوير بنية الصراع في المسرحية داخلياً وخارجياً، إلا أن المخرجة مالت أكثر جهة جعل صورتها المشهدية بصفة عامة، أقرب إلى صيغة «العبث» وبكثير من أدوات «الرمزية»، بما يتفق مع طبيعة «الأنماط» المتصارعة التي تعكسها أسماء الشخوص الرئيسية.
فحمرة نمط مجرد على الطريقة «التعبيرية» أولاً. وهو يحيل على جماعة أو قبيلة أو جنس، أكثر مما يحيل على شخصية منفردة لها أبعادها الواضحة، وزرقا أيضاً كذلك. أما «الحفَّار» فهو حالة دالة على طرف خارج هذا الصراع لكنه يعمل على تأجيجه بكفاءة عالية. وفي نهاية المسرحية، وبعد أن تتدخل السلطات الرسمية، يتحول الصراع من محض «ملاسنة» تنهض على التنكيل بالخصم عرقياً وتبخيسه مكانته، إلى ندامة بائنة تحيق بالشخصيتين جراء استنجادهما بهذه السلطات لأنها تنظر إلي الاثنين بمقدار متساوٍ في التصنيف العرقي يبخسهما معاً، ويستعجل نهايات الأمر دون أن يضع حساباً لطبيعته، فتصيب المكان لعنة الحرب الدائمة وتحيله إلى جحيم لا يطاق، فيؤدي ذلك إلى زحف «حمرة» و «زرقا» تحت نيران المدافع على الأرض يربطهما حبل واحد كأنه حبل المصير الذي ينتظرهما معاً بعد أن خرج الصراع عن طبيعته التي يفهمنها، وأصبح صراعاً تلعب السلطة السياسية والأمنية فيه أدواراً لا تضع اعتباراً حتى لمن يفترض أن الحل يهدف لجعل حياتهم أكثر طمأنينة، فيؤذي جميع الأطراف.
فحالة الحرب التي استشرت في المكان، لا تضع حساباً للجميع؛ لكنها تحاول إنهاء الأمر بأقصر الطرق المؤدية إلى ذلك. والرصاص لا يميز الأسود من الأحمر أو هكذا يمكن أن نقرأ دلالات هذا الحبل الذي لفَّهما مع نهاية المسرحية.
مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت في بريطانيا موجة مسرحية شبابية سميت بحركة الواقعية الجديدة، وهي حركة نشأت بعد احساس عام بالخيبة نتيجة أوًّل فوز لحزب العمال البريطاني بأغلبية برلمانية ساحقة بعد نهاية الحرب، وهبه بسهولة في الدورة القادمة لحزب المحافظين!
كان وقع مواضيع المسرحيات التي دشنتًّها هذه الحركة في خشبة مسرح (الرويال كورت) مع المؤلف الشهير (جون أوزبون)، جديداً على الأذن الإنجليزية وغير مستساغ بالنسبة لها. ذلك لأنه اعتمد في حواره على لهجات لم تكن مألوفة في سياق هذا المسرح سليل الفخامة الشكسبيرية والسخرية الذكية مع (برنادشو). ومع مجيء هذه الجماعة، ظهرت مجموعة من اللهجات المحلية التي أمدًّت الحوار المسرحي بالكثير من الحيوية. جون أوزبون نفسه كتب رائعته (أنظر إلى الوراء غاضباً) بلهجة برمنجهام المتغطرسة، واعتمد (ديلاتي) لهجة لانكشير، أما (أوين) فقد اعتمد لهجة ليفربول.
سقطت فخامة المسرح الإنجليزي الزائفة وتقدمت لغات الطبقات الفقيرة في الريف والمدن بكثافة بائنة، وهي في السابق –أي هذه الطبقات– لم تكن سوى مصدراً للشخصيات الهزلية فقط! تركت هذه الحركة أثرها الملحوظ على المسرح الإنجليزي ضمن حالة السخط العام التي تسرَّبت إلى أوصال الجميع في تلك الفترة. فشهدنا صور المطابخ وهي تعج بشغيلة مرهقة، وشهدنا فقراء الريف يصنعون حلمهم على المسرح بلهجتهم الحية أيضاً. ومن فرط تمسك حركة الواقعية الجديدة بضرورة تكريس هذه اللهجات، سميت في بعض الأحيان ب(دراما المطبخ)، وفي أحيان أخرى (دراما صندوق القمامة)! وهي دراما جعلت غايتها الأولى والأخيرة هدم الجدار الذي يفصل المسرح البريطاني عن الحياة، كما في عبارة (آرثر ميلر) المأثورة، وقد أحيطت هذه المسرحية أيضاً بأفق أكثر غضباً ربما يكون هدفه لطمنا بصور هذه الحياة التي أصبحنا نمر عليها بسهولة.
حاشية على الأداء التمثيلي:
لم تتح طبيعة النص التي مالت إلى حصر الصراع بين قطبين رئيسيين مثلتهما «حمرا» و»زرقا» لبقية الممثلين والممثلات فرصاً كافية لإبراز قدراتهم التمثيلية بالتوازي مع هاتين البطلتين. فقد ظفرتا بنصيب الأسد من مساحة العرض ولم تكن بقية الشخصيات بما فيها شخصية «الحفار» نفسه بقادرةً على تأكيد نفسها أمام سيل الحوار المتدفق ممتلئاً بحيوية الإثارة التغريبية وبراعة الوصف التراثي، إلا أن اللهجة التي اختارها العرض لممثليه، كشفت عن قدرات صوتية عالية التمرس لدى الممثلة نايرة إسماعيل التي أدت دور «حمرا» بلهجة صعبة التقليد على من لم يحيا في رحابها لمدة طويلة. اللغة في هذا العرض هي أساس التشخيص ومناط الكشف عن بؤس الصراع العنصري الذي يتحرك العرض في أحشائه، لذا فإن سلامة النطق وبلاغة اللسان الإثني المختلط، الذي يمتح من أشعار الحكامات ومن شائع قول المأثور التراثي، لم يكن بمقدور العرض أن ينجح بدونها ولا أن يحيلنا إلى هذه الصور الشعورية العديدة التي ربما تدلك عليها جملة واحدة من لسان «حمرة» أو «زرقا»، إلا أن الأولى أجادته ببراعة فائقة حتى طغى أدائها على أداء الجميع.
نبش هذا العرض في ذاكرة الجميع صورة للكراهية تفوق توقعاتهم. فقد وضعها خلف عدسة مسرحية بلغة غارقة في لجة الموت. وبصدق فني تمكن من جعل هذه الواقع أكثر غرابة مما ينبغي، فحقق غايته الأولى. كما قدم صورةً للصراع القائم على أساس العرق، تحيلنا إلى تجارب مختلفة لنهايات مثل هذا الصراع، ويا للغرابة؛ فقد سبق هذه الحرب الأخيرة بأيام وكأنه يستعجل أمراً استشعر وقوعه في هذا الوقت!
الديكور في هذه المسرحية يحتاج لإحكام دلالته أكثر مما ظهر، وكذلك الأزياء والإكسسوارات. فقد بدت أكثر عصرية مما ينبغي وأدخلتنا في ورطة دوال تحتمل الكثير من الإحالات في موضوع مُحكم البناء على المستوى البنيوي للعرض. أما اتخاذ البئر لذلك الموضع في أسفل يمين الخشبة فقد جعل من أمر التنازع على ملكية الأرض يبدوا منحازاً لجهة من البداية وقد رأيت أن مكانه الطبيعي بدون هذا الانحياز هو وسط خشبة المسرح تماماً.
ختاماً أقول: إن هذا العرض الذي رأيته لمرةٍ واحدة ضمن مهرجان البقعة في دورته الثانية عشرة، من أكثر العروض التي شهدتها إيفاءً لموضوعه بحساسية فكرية عالية لا يحجبها عن إعادة بناء الواقع، إلا ذلك الواقع الذي يغفل عنه الجميع! و في ظني أن هذه الغفلة نفسها، هي المسئول الأوَّل والأخير عن التأويل المتسرِّع الذي صنف العرض بلغة السياسة اليومية ضمن خانة العروض العنصرية وهو منها بريء في مسعاه الفكري لو تخلصنا من غطرسة بيرمنجهام!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.