برغم السرية التي فرضت على اجتماعات شورى الحركة الإسلامية الملتئمة الجمعة بضاحية العيلفون إلا أن ما تسرب منها كان كفيلا بتأكيد حجم التململ وعدم الرضا حيال الأوضاع التي تعيشها البلاد في مستوياتها السياسية والتنظيمية والمنتقلة بطبيعة الحال إلى جسد الكيان الإسلامي وثيق الصلة بمفاصل الدولة وهياكلها الحزبية والتنفيذية ، والإشارة الأبرز التي نقلت عن المؤتمر- الذي شهدت جلساته منافشات مثيرة كما وصفت القيادية سعاد الفاتح - كانت ما قاله الرئيس عمر البشير بأن الحكم والسياسية أفسدا الكثير من عضوية الحركة الإسلامية على الرغم من أن مجيئهم كان من أجل القيم وتطبيق الشريعة الإسلامية، وعلى ما يبدو فإن الرئيس لحظتها كانت عينه على ملفات الفساد التي زكمت رائحتها الأنوف وهي تلتصق برموز في الحكم وآخرين في دواوين ذات ارتباط وثيق بالتدين، وغير خاف ما يدور من صراع في وزارة الإرشاد والأوقاف والاتهامات المتبادلة بالفساد المالي بين نافذيها السابقين والحاليين، بينما يضج تقرير المراجع العام سنويا بملايين الأرقام حول اختلاسات وتجنيب خارج الحسابات الرسمية في مؤسسات الدولة التي غالب منتسبيها من مؤيدي الحكومة لأنها أقصت منذ مجيئها قبل نحو عشرين عاما كل من لا يمت بصلة للتنظيم الحركي الإسلامي فارتبطت بالتالي كل الممارسات الصالح منها والطالح بالإسلاميين، ولم تجد على ما يبدو محاولات إخفاء فساد الإسلاميين والمساعي المحمومة لمعالجتها داخليا، فذاع صيت المفسدين وتناقلت المواقع الإلكترونية وثائق من هنا وهناك لقيادات منتسبة للتنظيم الإسلامي وآخرين من ذوي القربى ، فشهوة الحكم والمال كانت أقوى من أي وازع يحول دون الفساد والتمدد أفقيا ورأسيا، وهو ما قاله البشير أمام أكثر من 300 كادر منتمٍ للحركة الإسلامية حين أكد بأن قضايا الحكم والسياسية شغلت عضوية الحركة عن الهدف الجوهري المتمثل في بناء دولة الشريعة. واعتراف البشير النادر سبقه إليه عراب الحركة الإسلامية وقائدها حسن الترابي حين طفق يردد ومنذ مفاصلة الإسلاميين الشهيرة بأن المنقسمين عنه اغتروا بالمال والسلطان ونسوا مرتكزات الحكم القائم على أصول الدين في إشاعة الحريات واللامركزية في الحكم والشورى وما إلى ذلك من أسس يرى فيها الترابي الهادي صوب الحكم الرشيد. وما كان للبشير والترابي الصدع بما آلت إليه الأوضاع في تنظيمهم الإسلامي لو أن الأمور تدار داخل الحركة الإسلامية سرا كما السابق فتطورات الأوضاع التي أودت إلى الانقسام استلزمت تجاوز حالة الاستتار التي ضربتها الحركة الإسلامية على نفسها بكامل تنظيمها فلم تكن في بداية نشأتها تبرز للعمل السياسي إلا عبر واجهات سياسية تفرغ خلالها بعضاً من تدابيرها وجهدها في العمل السياسي العام على أن تكون تلك الواجهات مثل جبهة الميثاق والجبهة الإسلامية القومية محكومة وخاضعة لسلطان التنظيم السري (الحركة الإسلامية) وبذلك تكون شورى التنظيم أعلى سلطة من جميع مؤسسات الحزب الواجهة السياسية. وبعد تأسيس المؤتمر الوطني وتمكنه في السلطة ومفاصل الدولة كان القرار هو الخروج بجميع التنظيم وسياساته إلى العلن، وبذلك قام مجلس شورى الحركة بحل التنظيم ليكتمل تماما الخروج إلى علن المؤتمر الوطني، لتبقى مؤسساته مرئية النشاط فاعلة في المجتمع، وتضاءلت الرغبة في العمل الخفي مع انعدام الحاجة إليه بعد تمدد الإسلاميين في مفاصل الدولة والمجتمع على نحو لافت. لكن بعض الأصوات لم تلبث أن تعالت يدفعها الحنين إلى سالف عهدها الأول بالتنظيم السري فبدأت تضغط في اتجاه تأسيس حركة إسلامية جديدة موازية للمؤامر الوطني لها مجلسها الشورى وأمينها العام وهيكلها المنفصل بدستوره ولجانه، لكن مدى فاعليتها تبدو منعدمة كليا فهي ليست حزبا مسجلا ولا تملك مقرا معلوما لكنها مرتبطة بالسلطة على نحو قوي، خاصة وأن أمينها العام الممتدة دورته حتى نهاية العام هو النائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه ورئيسها مستشار الرئيس إبراهيم أحمد عمر وبالتالي فغالب عضويتها منتمون إلى الدولة والحزب الحاكم في أعلى درجاته الهيكلية وهو ما يجعل الحركة غير فاعلة من وجهة نظر البعض، فكل قادتها منشغلون بتصريف الأعباء اليومية للدولة، وبالتالي فارتباطها أوثق بالسلطة ولا تخرج عنها وهو في حد ذاته تقييد فعلي لحركتها يضمن السيطرة عليها. ويؤكد الكاتب والمحلل السياسي الطيب زين العابدين في حوار صحفي أجري معه في وقت سابق بأن السلطة أفسدت الحركة الإسلامية فساداً شديداً، فالحرية صودرت والصحف أغلقت والأحزاب حلت، ويضيف بأن الحركة الإسلامية باتت أكثر سوءًا من عهد نميري لأنه كان فرداً معه مجموعة عساكر، أما الحركة الإسلامية فجعلت كل منسوبي الخدمة المدنية من كوادر الحركة الإسلامية، وبذلك أصبحت كل الدولة في قبضتها. ومن ذات الرؤية المتفقة على عدم فاعلية جسد الحركة تنامت أصوات تدعو إلى حلها والإعلان رسميا عن ذوبانها في المؤتمر الوطني الذي يواجه بدوره دعوات لا تنتهي تطالب بالإصلاح وإعمال الشورى بحق، خاصة وأن شكاوي عديدة ترتفع غضبا على تغييبها وصوريتها، بينما تتململ غالب قواعد الإسلامين من تطاول الانقسام الذي ذهب بالترابي وشيعته إلى طرف المعارضة، في حين الأوفق حسب ما يرى هؤلاء هو العمل سويا لتقوية جسد الحركة الإسلامية ، ولكن لا تبدو ذات القضية شغلا شاغلا لقادة الحركة الإسلامية الذين لم يناقشوا طبقا لمصادر ذات صلة ملف وحدة الإسلاميين في اجتماع العيلفون كما أنهم تغاضوا عن الحديث حول دمج الحركة الإسلامية في المؤتمر الوطنى باعتبار أن الجهة الوحيدة صاحبة الحق في اتخاذ القرار هي المؤتمر العام للحركة المفترض التئامه خلال العام الحالي بالنظر إلى أنه مكفول كل أربع سنوات فانعقد خلال الأعوام ( 2000 و 2004 و 2008 ) بما يستدعي عقده قبل نهاية العام الجاري وعليه أجاز مؤتمر مجلس شورى الحركة الإسلامية في دورة انعقاده العادية والأخيرة من عمر المجلس الحالي، مسودة الدستور الذي أشار ولأول مرة إلى أن الحركة جسم سياسي فكري ثقافي ذو أهداف يسعى لتحقيقها وله حزب سياسي، على أن تكون الحركة مشرفة عليه. كما ناقشت الشورى تقوية الحركة الإسلامية وإحكام حلقات التنسيق بين الأجسام الثلاثة (الحزب، الحركة، الحكومة) عبر جسم تنسيقي يضم مؤسسات منتخبة تشمل ممثلين لرئاسة الجمهورية والمؤتمر الوطني والحركة الإسلامية والأجهزة التنفيذية ذات الصلة. وأقر الاجتماع عقد المؤتمر العام في فترة أقصاها ديسمبر المقبل؛ لاختيار أمين عام جديد خلفاً لعلي عثمان الذي أكمل دورتين في قيادة الحركة وهو ما يمنع ترشحه لفترة جديدة، وترتفع بالتالي حظوظ الرئيس الحالي للحركة الإسلامية إبراهيم أحمد عمر للانتقال إلى الأمانة العامة خلفا لعلي عثمان بينما تراجعت أسهم غازي صلاح الدين الذي غاب عن اجتماع العيلفون وبرغم أن غازي نافس في الدورة الماضية علي عثمان بقوة وكان يلتف حوله عشرات الكوادر إلا أن عزلته تبدت مؤخرا سيما في أعقاب موقفه الأخير من قرار الاتحاد الإفريقي الذي انتقده بشدة واعتبره نيفاشا جديدة، لكن مصادقة المكتب القيادي للحزب على القرار ولو جزئيا مع ترقب اعتماده من البرلمان ربما يعكس إلى قدر كبير تراجع قدرة غازي على التأثير وإن كان الأمر في ظاهره يبدو خاضعا لرأي الشورى والأغلبية في الحزب والبرلمان، وما يجعل إبراهيم أحمد عمر الأكثر قربا إلى المنصب هو تأييده لفكرة دمج الحركة الإسلامية في الحزب فضلا عن تميزه بالهدوء البعيد عن المشاكسة بما يضمن للمؤتمر الوطني وأجهزته الحاكمة العمل في أجواء خالية من التوتر حال خسارة التيار الراغب في الاندماج. ويرى القيادي أمين حسن عمر في تصريح صحفي قبل يومين بأن هناك حاجة إلى التجديد ليس فقط في الأفكار وإنما في المواقف والقيادات، ويؤكد أن مفهوم التجديد يتجاوز الأطر والأسماء إلى محطة متقدمة، كما حرص على تأكيد انتفاء أي خلاف بين الحركة والمؤتمر الوطني، وقال إنهما يعملان في إطار متفق عليه وهو الإطار السياسي، وزاد قائلاً إن الحركة ليست ناشطة سياسياً، وإنما تنشط فكرياً وثقافياً واجتماعياً، لجهة أن أعضاء الحركة أعضاء في المؤتمر الوطني، وهو المناط به قيادة دفة العمل السياسي.