كنت الأسبوع الفائت أزور أسرة بأحد أحياء شرق النيل، فوجدت هذه الأسرة عن بكرة أبيها طريحة فراش «حمى التايفويد»، الأم والأب والأطفال، وعلمت أن جيرانهم وجيران جيرانهم كلهم يعيشون الأزمة ذاتها، فما من أسرة وإلا بها شخص أو شخصان يرزحان تحت وطأة هذه الحمى، وكنت يومها شاهد عيان على انتشار هذا الوباء، وذلك عندما اضطررنا ساعتها أن ننقل أحد مصابي تلك الأسرة إلى إحدى العيادات القريبة من منزلهم، لأن حالته قد تفاقمت وحمّاه ازدادت احتداماً، فسألت الطبيب الذي يدير المختبر عن عدد الحالات التي يسجلها أسبوعياً، فقال إنها بالعشرات، وظننت أنها «حالة حي واحد» هو حي المايقوما، لكن بعد أيام اكتشفت أن حياً آخر هو حي الفيحاء يعاني بعض مواطنيه من الوباء ذاته، وأيضاً كان هذا الاكتشاف الثاني عن طريق الصدفة، زيارة أسرية، لأكتشف أن أفراداً من هذه الأسرة أيضاً يعانون من إصابات حمى التايفويد، لكنني اكتشف أمراً آخر هو أكثر خطورة وقلقاً من الإصابة بهذه الحمى، هو أن على الأقل هناك ثلاث حالات ظلت تعاني من هذا الوباء لمدة تخطت ستة أشهر، تعالج الحالة وتظل الأعراض عالقة بالجسد، ثم يظهر التحليل المعملي بعد المعالجة أن المرض لا يزال موجوداً، بل أحياناً تتسع نسبته وتزداد. زميل آخر يسكن أحد أحياء الخرطوم يهاتفني ويبادرني بالسؤال.. «ما بتسألوا عن الناس»! ثم اكتشف أنه ولمدة عام كامل يعاني من حمى التايفويد، غيّر المعامل وبدّل الأطباء والنتيجة واحدة في كل مرة الإصابة موجودة في الدم وبفعالية، وأخيراً اتجه صاحبنا هذا «لعيادة أبحاث الإيمان» فوصفوا له المعالجة عن طريق «عسل الطلح» فقال إنه وجد بعض العافية في هذا العلاج. ٭ ثم قمت بعد ذلك بالاتصال بأحد الأطباء وسألته إن كانت صحة ولاية الخرطوم قد انتقلت من مربع «أزمة الملاريا» إلى «مأزق التايفويد»، فقال لي الرجل في بادئ الأمر، ليست هناك حالة وبائية تايفويدية، لكن الرجل الطبيب يرجع إليّ في اليوم الثاني، بعد أن قام ببعض المسوحات الطبية الشخصية ليخبرني بأن هناك حالات كثيرة وفي مناطق متفرقة من محليات ولاية الخرطوم، والطبيب يطلب مني إثارة هذا الأمر عبر الصحافة. ٭ ثم الأقدار وحدها تضعني أمام أحد المرضى منذ أيام، لاحظت بعض الإعياء على الرجل فسألته، فقال لي «ياخي ما تكتبوا لينا عن التايفويد الجننتنا دي!» فمنذ عامين يعاني من الإصابات المتكررة بهذه الحمى وكل المختبرات التي تردد عليها قبل تعاطي العلاج وبعده أثبتت أن جرثومة هذا المرض موجودة! وأقوال الأطباء الذين تردد عليهم متضاربة، فبعضهم يقل له «كل أي شيء ولا تتوقف عن الأكل»، وآخرون ينصحونه بالابتعاد عن اللبن والدهون، وبعضهم ينصحه ب «دواء أصلي» معين يجب أن يبحث عنه، إذ أن هناك أدوية غير أصلية، وبعضهم يفيده بأنها ستكون موجودة بالدم لمدة ستة أشهر. والرجل فعل كل شيء والتايفويد ترواح مكانها. ٭ عزيزتي وزارة الصحة، هل فعلاً نحن نعيش حالة وباء وتفشٍّ لهذه الحمى؟ وهل نحن عبرنا مرحلة الملاريا إلى التايفويد؟! وهل نواجه جيلاً من هذه الحمى يمتلك مناعة لمقاومة العلاج؟ وهل مراكزكم ومستشفياتكم تسجل أرقاماً قياسية؟ وهل صحيح أن البكتريا التي تسبب هذا المرض موجودة في المياه؟! أم أن غذاءنا هو الذي أصيب بالتلوث؟ إذ أن هذا المرض ينتج عن حالات تلوث! أين يكمن هذا التلوث؟ المواطنون يحتاجون إلى ثقافة صحية متكاملة وراشدة عن هذا الوباء. والله نسأل العافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.