{ في تلك المدينة عاصمة إحدى الولايات ببلادنا الغالية عَرَضَ أحد التجار المعروفين سِلَعَهُ بأسعار تقل كثيراً عما هو سائد بالأسواق، حدث ذلك قبل سنوات عديدة مضت!! { تراوحت الهمهمات والأقاويل مناحٍ شتى، منها أن بضاعته تالفة، مهربة، مسروقة، تحصل عليها من «المكَبَّات» أو ساحات «الدلالة»، أو تَقَرْصَنَ على تموينات مخصصة لأقاليم أخرى.. إلى غير ذلك!! { بدأ الناس في الشراء والتجريب بحذر، فلم يجدوا عيوباً البتة، فتراصت الصفوف أمام متجره، فيقف وسط أبنائه، يبيع لهذا وذاك ببشاشة غير مصطنعة، وصمت لا يتخلله إلا الرد على تحية أو الإجابة على استفسار!! { بعدما ذاع صيت الرجل، لم يجد المستفيدون من سلعه الجيدة، بأسعارها تلك، إلا أن يطلقوا عليه: «المجنون»!! { منهم من لازال متشككاً في مقاصده، ومنهم من لم يصدق أن يبيع أحد بهكذا أسعار إلا أن يكون به مس من الجنون، وآخرون لم يهتموا بالسلع بقدر اهتمامهم بمشاهدة «المجنون» وهو يمارس «جنونه»، وفئات داومت على التردد علَّها تفوز بما قد يُطرح لفترة ثم يختفى مع انتهاء «الجنون»، وإفلاس الرجل، واغلاق متجره إلى الأبد، بعد أن يُحال إلى مصحة الأمراض العقلية!! { في يقظة ضمير، وجد ذلك التاجر أن الأسعار السائدة في الأسواق مغالية، والأرباح فاحشة، فآثر أن ينجو بنفسه، ويربأ بها عما يجلب لها العذاب دنيا وآخرة، فكان تصرفه كالنشاذ في أوساط التجار الذين لا تعرف قلوبهم للمستهلك رحمة ولا اعتباراً!! { هكذا معظمنا في زماننا هذا، لا نجد صادقاً في تعامله ومباشراً دون مواراةٍ، إلا توجسنا منه خيفة، وحذرنا منه، ولا ملتزماً بحدود نفسه، إلا وسخرنا منه، ووصفناه ب«حمار شغل»، ولا دقيقاً في مواعيده، موفياً بوعوده، منظماً في تفاصيل حياته، إلا ضحكنا منه، ووصفناه ب«الآلية».. وقس على ذلك!! { كم «مجنون» يا تُرى؟؟ وكم «عبيط» و«حمار» و«آلة» يعيشون بيننا، ويشعرون بغربة حقيقية ومشقة في التلاؤم مع متناقضات هذه الحياة، وعجائبها؟؟ { وكم منافق، غمًّاز، لمَّاز، همَّاز، نمَّام، وكاذب؟، وكم مخادع غير مخلص في عمله، وغير مؤهل في القيام بأعباء وظيفته، وكم، وكم... يسرحون ويمرحون، ويأكلون كالأنعام، بل هم كالأنعام وأضَّلَ سبيلاً!! { إنها مفارقات الحياة، وانقلاب المفاهيم إلى الأضداد، لكن العبرة بالخاتمة، إرجعوا إلى خواتيم أعمال الفريقين في كل العصور، وقارنوا أيهما علا شأنه، وأيهما هوى إلى مهاوي جرفٍ «هارِ»!!