«جرت أحداث هذه القصة منتصف الستينات.. حيث مارست إحدى الجمعيات الطوعية الكبرى ما عرف ب (اليانصيب).. ولسبب أو لآخر ربط الحدث بلعبة السياسة ونتائجها» كان المكتب في ذلك الصباح كغير عادته، فلقد بعث فيه النشاط فجأة.. ودبت في أرجائه الحياة بما فيها من فرح وابتهاج.. وألم..!! ولم يكن السبب في ذلك راجع إلى «ترقية» أحدهم أو حتى كل العاملين فيه، فنقول إنهم جاءوا صبيحة ذلك اليوم ليجد كل فرد منهم أنه قد تدرج من منصبه الذي مله من كثرة العشرة الطويلة الفارغة.. وإنما كان الأمر يختلف عما أشرنا إليه كلية.. كانت ثروة ضخمة قد هبطت عليهم فجأة، أو على الأصح، على شخص واحد بينهم هو شخص «الباشكاتب»، أما هم فحسبهم ما لاقوه من تجديد في حياتهم الرتيبة، وكفاهم الابتسامات الطيبة التي يوزعها عليهم في كرم حاتمي، والتي لم يلحظوها من قبل ترتسم على ذلك المحيّا الجامد.. وكانوا طيبين معه، فابتهجوا له وشاركوه نصره الكبير كما امتلأت بطونهم بشراب (الكولا) المجاني.. وكان «هو» يستقبل الحفاوة في زهو ولا يفتر من القول «.. لولا وجودي بينكم ما كسبت شيئاً...» ولكن.. كان بينهم «نفر» لم يشاركهم الفرح، وبالتالي لم يتذوق شيئاً من الشراب اللذيذ.. وكان صاحبنا هذا كما يسمونه ب «عبد المحمود» يشعر بغيرة وحسرة تكاد تفطر جسمه إلى شتات. فهو يجلس محسوراً يندب حظه العاثر الذي شاء أن يقدم (التذكرة) الفائزة على «تذكرته» الخاسرة.. إن رقماً واحداً هو الذي يفصل بين تذكرته والجائزة.. والذي زاد من تحسره هو أن الجائزة كانت في متناول يده ولكنه قدمها عن طيب خاطر لشخص آخر.. فهو الذي اشترى «التذكرتين» الفائزة والخاسرة، أما الفائزة فكانت من نصيب «الباشكاتب»، رئيسه في العمل والخاسرة كانت من نصيبه.. وليت الأمر وقف عند هذا .. ليته لم يقدم اسم «الباشكاتب» على اسمه وعلى ذلك كان ليمكن لتلك «الملعونة» أن تستقر في يده المجدبة.. لكن ما الذي دفعه لفعل ذلك.. هل هو نوع من الغيريَّة التي تطبعت بها حياته البسيطة، أو أنه ينكر نفسه ويعترف بشخص «الباشكاتب»، أم ترى لتخوفه من تسلطه عليه حتى في غيابه..؟!! دارت هذه الأسئلة الحيرى في مخيلة «عبد المحمود» فأتعبت جسده ونفسه، فهي مزيج غريب التراكيب من انفعالات متضاربة يحس مذاقها في مرارة.. وجلس ساهماً في ذهول، تسود وجهه ظلال بسمة كئيبة.. ومن حيث لا يدري بدأت تداعبه خيالات كتلك التي مارسها حين اندفع مع الركب يساهم معهم بقلبه وماله.. ودمه.. وكان يثق في فوزه، بل من سيفوز غيره «هو» الذي يعرف جيداً طعم «الحلو» ولكن يحرم عليه أن يقربه.. هذه إذن فرصة لا بد أن يستغلها.. إن العدالة الحقيقية في جانب المظلوم وقوة الخير الآن في جانبه. فقط عليه أن يشارك.. ولن يفوز «الباشكاتب» بالرغم من مساهمته.. إنه سيكسب مساهمة «الباشكاتب» .. هكذا تقتضي العدالة.. وهكذا عاش «عبد المحمود» الأمل.. ولما كانت تضحيته غالية فقد لازمته كل الوقت.. كان في كل لحظة ينتقل من واقعه البائس ويعيش بثروة كبيرة هي ثمن «تذكرته» الفائزة.. أما عن كيفية توزيع «الثروة» فلقد وضع من نفسه اقتصادياً محنكاً وزعيما ًمخلصاً في تسيير دفة أسرته إلى حياة مستقبلها مضمون.. نعم .. لن يدعهم ينخدعون مثلما انخدع هو زمناً.. ويجتر الخيال ذكريات مضت.. إلى ثلاثة أعوام خلت.. وقتما كان يشد الرحال من بلدته معتزماً السفر إلى العاصمة.. كان متزوجاً وله طفلان رغماً عن سنه التي لا تتجاوز العشرين.. وكان يمكن أن يسير في طريق قريته حتى نهاية عمره .. فحياتهم بطبعها تبدو بسيطة.. ترضى بالقليل وتحمد ربها على الستر.. كان يرى «النيل» يحتضن قريته، والأرض.. لكنها عطشى، مثل الظمآن يرى الماء ويمنعه قصر حيلته.. فينتظرون كل عام أن يرتفع منسوب الماء ليروي «الجزر» والضفتين، ويبذلون في ذلك الدعاء الحار. فإذا خاب «الدعاء» «فالسيدة الشريفة» لا بدّ غضبى عليهم، وإذا كثر الخير تهللت أساريرهم وتقدموا بالهدايا «للسيدة الشريفة» وفي كلتا الحالتين كانوا يحمدون في صلواتهم على الستر.. ما عدا شخص واحد بينهم كان يجهر بتمرده وعصيانه.. فهو لا يؤمن «بالسيدة الشريفة» قدر إيمانه بنفسه.. فرفض الجمود.. رفض في عناد أن يسير معهم إلى حيث لا هدف أفضل.. و.. وتتابع الذكريات في انفعال أكثر.. فهو الآن في تصوره للحظات الوداع الأخيرة.. كان وسط أحد الحقول.. يتأمل السنابل «الضعيفة» التي يداعبها نسيم الفجر الندي.. والسواقي من حوله تئن في جهد بالقدر الذي تتحمله. وقف مدة ليست قصيرة في تأملاته تلك.. وبدا كأنه يهمس في أذن «السنابل» المتمايلة قائلاً «.. أعد بأنني لن أنساك أبداً.. لن أكون جاحداً والله.. سأعود إليك وأنا أكثر حباً وشوقاً.. فأنا واثق من حناني إليك بالقدر الذي أثق في وجودك.. وأنت.. أنت ستقابليني وتقبلين خدي.. هل تعرفين ماذا سأحضر معي عند عودتي.. نعم.. وابور.. وابور يروي ظمأك فتنهلين منه حتى تشبعي وتكبري وتكبري.. و.. وسأعود.. حتى ولو بعد الشيخوخة، سآتي به.. . فأنت باقية.. أبنائي بعدي.. من أجلهم.. ومن أجلك. وانحنى في رفق وقبل «سنبلة» قبلة الوداع.. فقد رأى والده من بعد يحث الخطى تجاهه.. وسمعه يناديه: - عبد المحمود.. العربية جات.. وسارا جنباً إلى جنب، الوالد والابن، ظلا صامتين.. لعل لأثر الفراق - عاد ما أوصيك.. تبقى على روحك عشرة.. والجوابات ما تقطعهم.. ويتمتم الابن مشجعاً: -إن شاء الله ما في عوجة.. - «أبو الخير» راح يقابلك في «الموقف».. تمشي معاه البيت.. بكرية وصولك يخدّمك في الحكومة معاه و..» و...« وتستمر التوصيات.. والمعانقة.. وتتحرك العربة بعبد المحمود صوب «الخرطوم». {{{{ حفلة «العرس» مازالت مائجة.. ضحكات بسبب ومن غير سبب، ولا أحد يتذكر «عبد المحمود» الذي جلس في ركن قصي نائي.. يتابع عقله الباطن شريط حياته، وترى عيناه كالطيف زحمة المهنئين يلتفون حول شخص آخر كان العدل يقضي أن يكون هو.. وينحسر الطيف ليستبدل به صورته في أول لقائه مع «الخرطوم».. يومها كان ينتابه شعور «الغريب».. «الغريب» الذي يجد نفسه وسط قوم لا يعرفونه ولا يحاولون معرفته.. فماذا يعني لهم.. مجرد نقطة ضئيلة ليست ذات شأن إن وجدت أو لم توجد.. هناك في «قريته» كان يعرف كل شخص، حتى الأطفال يعرفونه.. ولكن الآن.. هذا العدد الضخم الذي يبدو في سباق دائم .. وهذه البيوت العالية.. وتلك العربات الصغيرة والكبيرة التي تجري وتجري.. والنساء اللائي يزاحمن الرجال في كل شئ.. في السوق وفي الشارع وفي المركبات و.. وأماكن العمل .. وكل شئ كان يبدو مثيراً للغاية.. لدرجة أن دماغه لم تتحمل كثيراً فارتجت وتصدعت لأيام.. أما أول يوم له في خدمة الحكومة فهو لن ينساه أبداً، فلقد ارتبط بواقعتين فريدتين زادتا من أهمية تاريخه.. في ذلك اليوم.. وبعد أن نجح «أبوالخير» بنفوذه كرئيس «للمراسلات» أن يأويه تحت سلطته.. كان يجلس زائغ البصر في مقعده وهو لا يصدق أنه صار يعمل في الحكومة.. وفي تلك اللحظة كات ثمة مشاجرة - أو قل مجادلة - تدور بين زملائه «المراسلات» حول «ماتش الليلة» كان كل منهم يرغي ويزبد ويتحدث في انفعال هائج كما لو كان يدافع عن كرامة أبيه أو أمه.. وبعد أن انتهوا من ملاسنتهم سأل «عبد الحميد» قريبه «أبو الخير» عما سيناله لو كانت لهم الغلبة في تلك المباراة..! والنادرة الأخرى التي يذكرها حدثت عندما سمع صوتاً رقيقاً يناديه آمراً.. - مراسلة.. تعال جيب لي فطور..؟! وتسمر في مكانه عندما رآها.. حدجها بنظرة نارية أخافتها ثم أردف يقول لها متأفّفاً. - متلك عندي في البيت.. بتعوس..!! تلك الواقعتان وغيرهما كثير.. كان كلما يتذكرهما لا يملك نفسه من الضحك الساخر والتهكم المرير.. ولكن ما عاد الآن يكرر مثل ذلك بعد أن عايش الحياة في واقعها السطحي.. فعرف التملق لدى «الرؤساء» و«النسوان» وعرف كيف يجادل في المباريات والسياسة وكل الكلام الفارغ، كما عرف كيف يجعل المال القليل يتطاير من يديه في أشياء وهمية لا قيمة لها بينما يشتد فقره، وأهله من جهة أخرى ينتظرون في قلق «الملاليم» التي يرسلها لهم كل شهر، والتي تتناقص بالتوالي.. ويستمر في عرض التغيرات التي تعرض لها ومدى صموده أمامها.. ويتذكر «الوابور» والسنابل الضعيفة والأرض العطشى.. ويحس بخجل زائد.. لكنه ماذا يملك أمام الإغراءات التي يصادفها كل يوم.. إنه لا يملك زمام نفسه ولكنه يندفع مع الركب السائر.. إلى أين..؟! لا أحد يريد أن يدري.. ولكنه يندفع.. ويستمر في اندفاعه حتى يموت السؤال لما يشمله من غموض. فالحلقة الفارغة تدور.. تدور«الكؤوس» في «العاصمة».. وتدور «السواقي» في القرى.. كؤوس للهروب، وثيران قاصرة يسير خلفها الإنسان في وداعة الحمل.. والآن.. بعد أن دفع غالياً ثمناً للتذكرة.. كان يثق من فوزه وعندئذ يتمكن من إصلاح شأنه وشأن أسرته بل كل بلدته.. ولكن.. آه من الضياع.. وآه من حظي العاثر.. لو كانت «الملعونة» من نصيبي لكنت قد بدأت بالطريق الصحيح.. لو أمتلكه فقط.. وودَّ لو يبكي .. لو يعود ثانية إلى «قريته» الآمنة.. إلى «السيدة الشريفة».. فعلى الأقل هناك لم يفقدوا إحساسهم.. يدعون «السيدة الشريفة» لزيادة الخير بكل وجدانهم، ولكنهم هنا لا يدعون أحد.. لا يفيقون من سباتهم إلا ليهذوا بكلام فارغ لا يسمن ولا يغني من جوع. ويستسرل في محاسبة نفسه.. لكن يقطع عليه حبل الذكريات صوت «الباشكاتب» يناديه - عبد المحمود.. مراسلة..؟! ونهض «عبد المحمود» في ثقل وقصد «الباشكاتب» فربما يريد أن يعطيه شيئاً من الجائزة. - الساعة دلوقت واحدة.. عايزك تمشي ل «يوسف افندي» تقول ليه الأخبار المفرحة دي.. تلفونه خسران ما بيرد.. أدّيه الورقة دي.. عايزُه يعرف قبل الإذاعة والجرايد.. ونظر إليه «عبد المحمود» في برود.. كان يحس بما يشبه الغثيان وهو يسمع حديثه.. وتمنى لو يغرز أصابعه في عنقه السمين.. ولكن مع ذلك لم يملك إلا أن يقول في صوت ضعيف - حاضر وتوجه لتوه إلى منزله.. فليذهب «الباشكاتب» و«يوسف أفندي» إلى الجحيم.. نعم.. لن يعود ثانية ليرى ذلك الوجه القبيح.. سيشد الرحال إلى بلدتهم.. هناك حيث يشعر بالسلام والطمأنينة وسط أهله الطيبين لكن.. الوابور.. كيف سيلتقي الأرض الظمأى..لا.. لا يهم.. الحمد لله أنني عدت بالسلامة إلى «الحظيرة».. أبنائي بعدي وحدهم سيرفضون السير وراء «الثيران». .. نعم.. لم تخسر الأرض شيئاً.. ولكني غير جدير بالرسالة.. و.. ويتابع السير، وفي كل خطوة يخطوها يزداد غبناً وعزماً على الفرار.. وبينما هو في سعيه تذكر الورقة التي أعطاها له «الباشكاتب».. ووجد دافعاً يدفعه لأن يقرأها.. قلّبها بين يديه وراح يتأمل مكتوبها.. لم يفهم منه شيئاً.. حاول مرة أخرى أن يفك رموزها.. لم يستطع.. وفجأة كانت الورقة داخل فمه يلوكها بأسنانه.. يحرقه ثم يبصقها في قسوة تحت أرجله ويدوس عليها بقدمه. ويصل إلى بيته بحالته النفسية تلك.. وهناك يقابل «قريبه».. كان في إجازة مرضية.. وعاجله الأخير قبل أن يستقر به المقام: - صحيح الأخبار دي.. الباشكاتب فاز؟ ويومئ إليه عبد المحمود برأسه موافقاً.. ويتابع الأول متعجباً: - يا بختُه.. والله النعمة بتعرف دربها.. هنا ينظر إليه «عبد المحمود» مدة طويلة ويقول في لهجة غريبة: - صدقت.. وإليك برهان مني.. تعرف منُو الاشترى ليه التذكرة..؟ ولم ينتظر جواباً فواصل حدثه: أنا.. تصدق.. أنا بنفسي جبت ليه «التذكرة» الربحانة في مكتبه.. ما جرى وراها زيِّي.. تصدق.. وكمان ما نسيت نفسي.. جبت ليها واحدة خسرانة..!! ويبدو أن «أبوالخير» صعق كثيراً فصاح في دهشة: - ما معقول..؟!! - والله معقول.. ويصدق الأول مستسلماً، قائلاً وهو يضرب يديه في عجب: - حقيقة «القروش» بتعرف سيدها والله. - والله.. وبالمناسبة.. أنا مسافر بكرة البلد.. ونهض من وقته ليلملم حاجياته.. وفي أثناء تلك العملية وقع بصره عليها.. على «التذكرة» التي فرقت «بنط».. وتأملها.. تأملاً طويلاً.. وبدأت الحقيقة تجلو أمام عينيه.. فهل معقول أن..!! لا... يجب أن ألقي نظرة أخرى على الأرقام.. وكان أن صاح بلا وعي: - أبو... أبو... هات النشرة ديك.. هاتها بسرعة.. وبدأ يقارن الأرقام الرابحة بأرقام تذكرته.. واندهش كثيراً وهو لا يصدق النتيجة.. لكنها كانت نفس الأرقام التي حملتها تذكرة «الباشكاتب».. فقط «تذكرته» هو لم يكن واثق من رقمها لأنها كانت في بيته.. ولكنه عرف بالضرورة أنها لابد أنه يفصل بينها وبين «الفائزة» رقم واحد.. فيومها كانت الأرقام ملتحمة وهو واثق من ذلك. ولكن الآن.. هل..؟! نعم.. لابد أنه لعب واحدة أخرى.. واحدة تختلف كل الإختلاف.. هي التي كسبت.. ولكنه أين كان هو في ذلك الوقت..؟!! ولم يحر جواباً، لكنه ذلك السؤال الغامض.. ليقل فقط إنه بذل في سبيلها كل جهده.. وبقي منتظراً الكسب في ثقة عمياء. لم يكن يخطر بباله أبداً احتمال هذه النتيجة.. «معليش»..؟! كان يانصيباً كسبه «الباشكاتب» في غفلة.. نعم.. «يا نصيب».. وهل أي شئ غير اليانصيب..؟!! .. عجباً لأمري.. هل عرفت هذا فقط الآن.. فأنا لم أكن وحدي صاحب «التذكرة» الخسرانة.. لا .. بل آلاف مؤلفة.. ملايين غيري. و.. ومعليش.. فلن يكن مرة أخرى.. لن يكون «يانصيباً» المرة القادمة.. أبنائي بعدي لن يكونوا في مثل سذاجتي.. نعم.. سيشترون وابوراً (حقيقياً).. ويبدو أنه وجد في هذا القول الأخير بعض العزاء، فالتفت تجاه قريبه ليقول له شيئاً.. أي شئ يبعد عنه هذا الكابوس - اسمع.. أيه رأيك في « ماتش الليلة».. حيكون سخن.. هل تذهب معي.. نعم.. لقد تركت السفر.. ويجيبه «أبوالخير» بابتسامة بلهاء: - لا يا عم.. أنا ماشي الليلة (الدايره) للاحتفال بالنصر.. وكمان ما تنسى.. حيكون فيها (حريق) شديد..!! ويتبادلان نظرات غريبة.. خاصة «عبد المحمود» الذي أعاده قول قريبه إلى قصة (اليانصيب) ومدى الارتباط..!! الديوم الشرقية 19/9/1992