في 3 يونيو 1964م كان سفري الأول إلى مصر.. وكنت طفلاً مخضرماً على أعتاب الصبا الأول، وكنت برفقة أحمد الطيب عبدون السربوتي الوحدوي المستشار السياسي للأمين العام للأمم المتحدة أيام مشكلة الكونجو والوزير في حكومة بابكر عوض الله ثم رئيس الديوان بالقصر الجمهوري ومدير مكتب الجامعة العربية في باريس في ما بعد.. وفي الطائرة بدأ انبهاري به واستفحل.. فقد كان أنيقاً متحضراً مثقفاً راقياً.. وفي شقته بمصر الجديدة القريبة من مستشفى هيلو بوليس وسيدان تركيف وشارع الحجاز الذي كان يقيم فيه الطيار حسني مبارك.. طبعاً عرفت ذلك في ما بعد.. والفيلا 46 شارع عبدالله أبو السعود التي هي بيت الوزير في زمن عبدالناصر وخلال الوحدة المصرية السورية وعضو مجلس الرئاسة بعد الانفصال المهندس أحمد عبده الشرباصي.. في تلك الشقة رأيت زوجته المصرية وابنها ذا العامين.. ومن فرط حبها وإعجابها بزوجها فقد أطلقت اسمه على ابنها الوحيد، أي أحمد وكان ذلك هو اسمه في شهادة الميلاد لكنه اشتهر بحمادة. ولقد شق حمادة طريقه في هذه الحياة على نسق مغاير تماماً لنسق والده الفلتة.. أحمد الطيب عبدون الذي هاجر أو هرب صبياً مع فلتة آخر هو صديق عمره أحمد السيد حمد إلى مصر ليتلقيا تعليمهما الثانوي هناك.. ثم ومعهما عقيل أحمد عقيل إلى كلية الحقوق بجامعة القاهرة ثم إلى باريس وبوردو والعودة بالدكتوراه. إن القراءة مثلاً التي كانت محوراً رئيسياً في حياة هذا الثلاثي الممتاز حتى بعد التخرج في الجامعة كانت تعني القليل بالنسبة لحمادة.. ولم يكن وحده ولكن يشاركه هذا القصور كثير من أبناء جيله أو معظمعهم.. وكان الإيجابي أنه منذ وقت مبكر في حياته قرر بالمتاح من مؤهلاته أن يعمل، وأن يعتمد على نفسه. فعمل في البداية بإحدى الشركات المصرية ثم هاجر إلى هولندا وعمل بها واتخذها وطناً ثانياً. وليس في ذلك غضاضة.. فعندما يضيق الوطن بالمرء فلا مناص من الهجرة أو أن الهجرة تكون في هذه الحالة أحد البدائل وهي مشروعة بنص القرآن (ألم تكن أرض الله واسعة). لكن الخطأ الذي اقترفه حمادة أنه بوصوله إلى هولندا انقطعت أخباره وكان هو المسؤول. وقد كان يملك أرصدة معنوية معتبرة هنا في أم درمان لكنه رغب في استثمارها وشهد كثيراً من الحروب ومنها كرري 1898م وكان من أوائل من أقاموا في ودنوباوي وكان ينادي طوال حياته بالأمير وكان جده المباشر أحد ثوار 1924م وحوكم مع علي عبداللطيف بالسجن ثلاث سنوات وكانت عقوبة البطل علي عبداللطيف في نفس المحكمة السجن عشر سنوات، وكان أبوه أحد ألمع نجوم المجموعة الذهبية التي كتبنا عنها قبل أيام. وترك حمادة كل ذلك الإرث وراء ظهره مهاجراً ومقيماً في هولندا إلى أن توفاه الله أمس الأول، هناك في البلد البعيد الموحش البارد.. رحمه الله وجعل الجنة مثواه.. «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي». صدق الله العظيم