حتى الحرب العالمية الأولى التي انتهت عام 1945م كانت بريطانيا هي الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن مملكاتها وكانت تحكم دولاً كثيرة منها السودان، وكانت الولاياتالمتحدةالأمريكية في ذلك الوقت من أواخر العقد الثاني للقرن العشرين دولة غنية قوية لكنها لم تكن قد تورطت أو انغمست بعد في الشؤون العالمية. وبعد الحرب العالمية الثانية التي إنتهت عام 1945م تراجعت مكانة بريطانيا رغم أنها كانت في مقدمة المنتصرين ثم تراجعت هذه المكانة أكثر بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 56 وكانت أحد أضلاعه. لقد انتقلت سيدة البحار التي هي بريطانيا من مرحلة الإمبراطورية إلى مرحلة الكومونولث فقد استقلت كل مستعمراتها تقريباً لكنها بقيت أحد الكبار الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وصارت لغتها هي الأولى في العالم. وبعد الحرب العالمية الثانية أصبح الاتحاد السوفيتي هو القوة العظمى الثانية في العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية وكانت روسيا هي نواته الصلبة وأهم وأكبر مكوناته ثم تفكك هذا الاتحاد أول التسعينيات إلى دول وأهمها روسيا ودخل العالم مرحلة ما أطلق عليه الأحادية القطبية أو النظام العالمي الجديد، حيث القوة العظمى الواحدة وزوال التوازن الدولي فتصدرت الولاياتالمتحدة المشهد عن جدارة وتأتي بعدها مجموعة من الدول القوية المؤثرة منها بريطانيا وروسيا وأخريات. ومن يومين زار رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون روسيا والتقى بالرئيس ميدفيديف ورئيس الوزراء بوتين، وفي الماضي قبل الحرب الباردة وأثناءها بمستوى أقل كانت اللقاءات بين قادة الدولتين حدثاً كبيراً ينتظر العالم نتائجه، أما هذه المرة فقد كان لقاءً عادياً بين زعماء دولتين قويتين اضمحل تأثيرهما في السياسة الدولية وفي الماضي فإنهم كانوا يصولون ويجولون في هموم العالم وأوضاع شعوبه وفي هذه المرة انكفأ قادة الدولتين على العلاقة الخاصة بينهما وعلى العلاقات التجارية بين البلدين فقد اصطحب كاميرون معه عشرين من رجال الأعمال. ولم تخل اللقاءات من طرافة وخفة دم فعندما زار الطالب كاميرون روسيا منتصف الثمانينيات حاولت المخابرات السوفيتية تجنيده لكن وطنية كاميرون حالت دون ذلك، وفي المؤتمر الصحفي أشار الرئيس ميدفيديف ضاحكاً إلى هذه الواقعة وقال أنا واثق أن ديفيد كان من الممكن أن يكون عميلاً جيداً للمخابرات السوفيتية. ولو تم ذلك لما تسنى له أن يصبح رئيساً لوزراء بريطانيا. درس في الوطنية قدمه عام 80 يافع اسمه ديفيد كاميرون وعندما يصل مثل هذا الطالب إلى قمة الحكم في بلاده فإنه يظل مؤتمناً على مصير بلده ومصالحه ويبقى مواطنوه واثقين من أنه لن يفرط في حقوقهم وحقوق وطنهم. إن الوطنية في تلك الدول ليست محل شك وهي بديهية ومن الثوابت، ويختلف الحال بعض الشيء في عالمنا المسمى بالثالث ففيه يمكن تجنيد ليس الطلبة وحدهم لصالح مخابرات الدول الكبرى وإنما يتم أحياناً تجنيد الرؤساء الذين من المحتمل أن يصلوا إلى الحكم، وهذا أحد الفوارق بين العالمين الأول والثالث، والبعض يرون أن سواد المواطنين في العالم الثالث وطنيون.