دعوني أبدأ من هناك، لما أعلنت حكومة ولاية الخرطوم عن نيتها توريد بصات حكومية لتملأ بعض فراغات طرقات الولاية، نهضت بالتزامن في المقابل حملات من بعض الذين «يحسبون كل صيحة عليهم»، بأن خطوة ولاية الخرطوم هذه تستهدف «حافلات الولاية» ولا شيء غير الحافلات، وتطورت تلك الحيثيات وتفننت وتنوعت، لدرجة الزعم بأن الحكومة عندما تقدم على مشروع فإنها تضع في حسبانها وحساباتها كل شيء إلا مصلحة المواطن، ولعمري لم تستجلب تلك البصات لتنقل نواب برلمان الولاية أو أبناء الوزراء وإنما جيء بها لسد النقص الذي لم تستطع أن تملأه الحافلات، علماً بأن «خادم الفكي مجبورة على الصلاة»، كما يقول المثل السوداني، لأن هذه الحافلات تعمل بأمزجة ملاكها، لكن بصات الحكومة يفترض أنها تعمل تحت رعاية وإدارة شركة متخصصة توجهها إلى الخطوط التي تهرب منها الحافلات، لما تنعدم الجدوى المادية للحافلات تتجلى الحكمة الحكومية بوجود بصات الجماهير. المهم في الأمر أن تلك الحملات قد أخذت شكلاً تصاعدياً في مواجهتها لقرار توريد البصات، ولكن بدا أن حكوماتنا قد اكتسبت «مناعة إعلامية» في مقاومة بعض الحملات الجائرة التي لا ترتكز على رجلين راسختين، لما تتداخل الخطوط وتتشابك ولا يفرق بعضنا بين «مشروعات الجماهير» ومشروعات الحكومة، المعارضة لأجل المعارضة، وصلت المقاومة ذروتها مع وصول الجيل الأول من بص الوالي إلى ميناء بورتسودان، ولما وصلت البصات إلى الخرطوم كان القوم قد أعدوا كشوفات محاسبية بعدد الأسر التي ستتشرد بقدوم هذه البصات، لكن هذه الحملات بدأت في التناقض والتناقص مع نزول البصات إلى شعاب خطوط الولاية، الجماهير تخذل الحملة وتفرغها عن مضمونها، والجماهير تنحاز إلى (الأخضر الليموني) لدرجة إحياء تلك الأغنية التراثية من مرقدها (قام يتعزز الليمون عشان بالغنا في ريدو)، أحد ربعنا الذي أتى في زيارة إلى الخرطوم طفق يحدثني بزهو عن هذه البصات، قال لقد اضطر لاستخدام «ملفحته المصرية» لمقاومة برودتها في عز الصيف، غير أنه قد وصل المحطة الأخيرة ثم عاد في ذات الرحلة. ربما يتساءل البعض، كل ذلك مفهوم ومعلوم فما الجديد في الأمر، مجموعة مسوغات ومبررات أعادتني لهذا الملف وأولها، نحتاج أن نعيد إنتاج تلك الحكاية التقليدية، قيل أن (فيلة الحاكم) في زمان سحيق مضى كانت تأكل زرع الأهالي دون أن يجرؤ أحد على ردعها، عندما نهض أحدهم وفق خطة مدروسة، أن يسوق الأهالي في موكب للحاكم، وأن يقول في حضرة الوالي: «الفيلة»، ثم يقول كل الأهالي بأنها أكلت الجزيرة، وذلك لمصادرتها وسحبها من طرقات القرية، فوقف الأهالي أمام الوالي، فقال الرجل: «الفيلة»، فلم يستطع الأهالي إكمال الحملة، فانتهره الحاكم: «مالها الفيلة؟»، قال الرجل بذكاء: «الفيلة تحتاج لرفيقة»! سيدي الوالي، شرف هذه المهنة جعلني أمس الأول أبحث في أسباب تكدس الجماهير في عز الهجير عند بعض المحطات، فقيل أن الحافلات لا تعمل بفعالية في مثل هذه الأوقات، وأنها تنسحب من الطرقات، فرأيت أن المسؤولية الأخلاقية للدولة أن تأتي للفيلة (بص الوالي) بجموعة أخرى، لأن بص الولاية في هذه الحالة وكل الحالات (مجبور على الصلاة) كخادم الفكي. مخرج.. كنا نشكو دائماً بأن الخرطوم عاصمة بلا هوية، وأتصور أن (بص الوالي) بلونه الأخضر الذي يعبر عن حقول ومزارع بلادي قد أضاف (لمسة تشكيلية)، لذا نحتاج أيضاً مقاومة (بيع اللون) في سوق الإعلانات حتى نحافظ على هذه الخضرة.