في طقس عامر بالمغامرات عاش الشاعر محمد الحسن سالم حميد ورأى وجه الكون وراح يضيء مداه، عاش (حميد) التربالي الفقير وصدره مفرود للشمس يقتفى أثر الخطيئة ليعالجها، يرتسم غناه كلسع الجمر والجليد معاً. (محمد الحسن) ابن الشمال الذي منح الوطن شرف الخلود في حروفه والتمثل في هيئة أنثى مكتنزة بالصحة والجمال، جاء إلى قاعة الصداقة أمس الأول (الثلاثاء) وهو يحتفي بتدشين ديوانه الأخير (أرضاً سلاح)، ويحتمي بضيوف من شتى الأحزاب السياسية والاتجاهات. التقيناه في دردشة سياسية. بعيونه العسلية وضحكته البريئة، وتواضعه الذي أملى عليه حتى الاعتراض على كلمة أستاذ، وبمهارة فائقة كان يجيب علينا ويقلب معنا أوراقه القديمة والجديدة، جدلية المبدع والسلطة، وسد مروي، وقصائده الثائرة قبل ثورات الربيع العربي، حميد الذي تنقل بين المنافي كما الفراشة بين الزهور، هل ألقى عن كاهله السلاح بالفعل و«تاورته ختميته القديمة».. كيف ينظر للرئيس البشير وصلاح قوش وآخرين في خانة الخصوم والأصدقاء وما تبقى من نوري وعرق الجباه الشم؟! { بتدشينك لديوان (أرضاً سلاح).. هل عدت مرة أخرى لمزاولة الكتابة والشعر؟ - أنا أصلاً ما انقطعت عن الشعر حتى أعود له، وبحكم وجودي في نوري كل ما دعوني بشد (مركوبي) وبجري وراء البص للغناء في منابر الخرطوم زي (التروبادور). { ولكن حميد منذ أن عاد للسودان ألقى عن كاهله السلاح بالفعل وباع القضية؟ - بعيداً عن السياسة نحنُ رُسل للسلام، وغنينا للسلام والحرية وندهنا بأعلى صوتنا أن ألقوا السلاح، فالبندقية لا تحل قضية، بالذات في بلد مثل السودان متعدد الثقافات والأعراق، أي بندقية هى كارثة بتفضح دمويتنا وعشقنا للعنف، أما حكاية الاتفاقيات السياسية وتقاسم الكراسي أبداً ما هى السلام الذي نتوق له. { ألا تعتقد أن غناك لليسار وتبشيرك بالاشتراكية كان خصماً على جمهورك من الإسلاميين عموماً؟ - (لا إله الا الله محمد رسول الله) مافي شاعر بقول أنا يساري ولا يميني، الغناء هو غناء للإنسانية بشتى انتماءاتها، ومن هنا نحن بنغني للشعب السوداني، شيوعيين وأنصاراً وختمية، وسلفيين، كيفما يكونوا، بنكرس لقيم الجمال والمحبة والسلام، فإذا كان غنانا (هبش) أي جهة فنحن بنفتح في نفاج ليوم باكر، ولا بد أن يغشاهم الغبار ما لم تصبهم معاول البناء و(عشان كده هم بيكرهونا). { ألا تتفق معي أن المبدع هو ابن الجماهير وينبغي أن يكون في خصومة أبدية مع الساسة لا في تماهٍ؟ - بمنطق مغاير محجوب شريف انتماؤه الفكري للحزب الشيوعي، وهو حزب مثل أي حزب في الساحة ولكن هذا الانتماء لا يعني أن محجوب شريف بوق للحزب الشيوعي، لكنه ينادي بأفكار تتعارض مع مجموعات سياسية أخرى وبالتالي تنعته بالشيوعي، مع أن الشاعر في المجتمع المتناحر لا بد له أن ينحاز، وانحيازه لا يصلح إلا أن يكون للجماهير، فإذا كانت الجماهير (يسار) (حبابها ألف) وإذا كانت يمين برضو (حبابها ألف). { أنت بالتحديد لا تخلو كل قصائدك من السياسة والأيدولوجيا للدرجة التي اختلط فيها الوطن والعقيدة بالحبيبة؟ - بالمناسبة الشعر والفن لا ينفصلان عن السياسة، وأنا ما عندي مشكلة محل يمشي غناي يمشي لأنه بالأساس بيفضح القبح والظلم، وفوق دا الشعر منتج إنساني. { حميد في الأصل اتحادي يرتدي أكثر من عباءة ما تعليقك؟ - أنا ما اتحادي ولا علاقة لي بالحزب الاتحادي، أنا ختمي وأبوي ختمي وأتربينا على أناشيدهم، وقد عملت معهم في شبابي، ولذلك أحترم الختمية كطريقة صوفية، وهذا لا يعني أنني ضد الطريقة القادرية مثلاً، وممكن أطلع فوق أكبر عمارة وأهتف (عاش أبو هاشم) وقد ذكرتها في أهزوجة بمناسبة عودة (أبو هاشم) التي كانت منتظرة ولم تحدث حينها، ومن هنا تقريباً جاء الاتهام، ومن قبل شاركت في مؤتمر المرجعيات بصفتي سودانياً فقط، وقد كنت (حايم) في الحولية الأخيرة، والدليل على أنني لست اتحادياً هو أنني ترشحت في الانتخابات الأخيرة وقد صوت الاتحاديون ضدي. { ولكنك خسرت الانتخابات بفارق كبير فهل أنت نادم على المشاركة؟ - لم أخسر الانتخابات وقد كنت الفائز الأول في الدائرة التشريعية، الفائز الحقيقي إلا أنني في الظاهر وبسبب التزوير لم أدخل للمجلس التشريعي. { كيف تنظر لسد مروي كمشروع قومي شيدته الإنقاذ وهتف له الألاف «الرد الرد كباري وسد»؟ - سد مروي مشروع قديم منذ الأربعينات، وهو كإنجاز في أي عهد جاء (حبابه) ولكن صراحة نحن أكثر من تضرر منه، بالذات في منطقة نوري، (فقرانين) وبنشرب مياه مليانة بالطحالب، هل تصدق أن كل زول في نوري يكاد يكون (شربانله منصوري) ولا زلنا نشرب من البحر زي التمر والحيوانات، التجريف وآثار السد السالبة بدأت تظهر فينا، والأرض فقدت خصوبتها، وإدارة السد لم تف بوعدها وهى مسؤولة أمام الله والتاريخ، مع العلم أن الكهرباء أغلى من البترول، ولذلك أتمنى من إدارة السد أن تنتبه لأن الواقع هنالك محتقن ولا زلنا نرحل بالإسعافات لمن ملينا مقابر الخرطوم، وبالتالي أقولها بالصوت العالي يا بناة السد المروي انتبهوا. { كيف تلقيت خبر انفصال الجنوب.. هل حزنت؟ - أبداً ما حزنت لانفصال الجنوب ولا حاجة، لأن (الجنوب لم ينفصل وإنما خيل لهم)، ما حدث هو نتائج الاتفاقية وتراخي القوى السياسية التي كانت تعول على الحركة الشعبية، والأخيرة اختطفها الانفصاليون وقسموا بها البلاد، صدقني الانفصال فعل سياسي وهو مؤقت وحا يجي يوم يرجع السودان زي ما كان، لأن الشغلانة عميقة وفيها تاريخ وتزاوج وانصهار، وما حدث هو نتاج الأزمة الساسية. { ولكنك لم تكتب قصيدة تعبر فيها عن فجيعتك بما حدث؟ - لن أغني للانفصال وحا أظل أتعامل مع الخريطة القديمة، لأن الغناء يتعامل مع الكون وليس مع الأجزاء، الانفصاليون سينهزمون ساعة أن يهب الشعب. { تربطك صداقة قديمة ومودة مع صلاح قوش وهو خصم للشاعر المتمرد على السلطة في دواخلك، ألا تخشى أن يكون طعامهم مسموماً؟ - أنا بتعامل مع قوش كإنسان عادي زي كل البشر، وبأشعاري قادر أستقطبه للخير والجمال، وأقولك ما في إنسان بيبني صداقته على الأيدولوجيا، نحن أولاد بلد واحد وقوش يصغرني وأهله بريدوه لأنه خدمهم، المهم لو بغنانا قدرنا نلم الشيوعيين والإسلاميين والجمهوريين والاتحاديين في ونسة شعر زي ما حصل أمس في قاعة الصداقة ودي رسالتنا، لمن نجمعهم مع بعض أقلاها بنرمم دواخلهم بالمحبة، ولمة أمس بالذات كانت كافية بأن من يصنع التغيير ليس الساسة وإنما الشعراء. { ولكن انتهى زمن الشعر والهتاف؟ - لا لا من يملك الشارع الآن هو الشاعر، وبين الشاعر والشارع أحرف متشابهات. { هل التقيت بالرئيس البشير وما الذي يعجبك فيه؟ - أبداً ما لاقيت الرئيس البشير، وهو إنسان طيب ولو لاقيته بتونس معاه كعمر ود حسن ود البشير وليس كرئيس، أخوه علي صديقي. { ماذا عن الطيب مصطفى ومنبر السلام الذي تسبب في انفصال الجنوب كما يعتقد البعض؟ - أتذكر أن الطيب مصطفى أسس معنا كيان الشمال وهو زارنا وقال إنه معنا قلباً وقالباً لكن طلب منا دمج منبر السلام مع كيان الشمال ورفضنا ذلك واعترضناه، قلنا له حبابك كواحد من أبناء الشمال ولكننا لسنا انفصاليين، قضيتنا تتعلق بالتهميش، بعد ذلك اختلط على البعض المنبر بالكيان بينما الاختلاف واضح جداً. { من هو الزعيم السياسي الذي يلهم حميد؟ - ما في حد ملهم بالمعنى الكامل، لكن الساسة على مدار الحركة الوطنية مثل البستان، أشجاره مختلفة وبيدي ثمار متنوعة، في ناس بيحبوا المنقة وفي ناس بيحبوا البرتقال، غير أنني أنظر للساسة بمنظار نقدي ولا تتملكني العاطفة الكاملة تجاههم. { لماذا لم تغن لثورات الربيع وأنت في الحقيقة شاعر ثائر؟ - أبداً نحن ما بنرجى الثورة نحن بننتج الثورة، والشعر هو ذاته ثورة، ثورة الربيع العربي أنتجناها من قبل، وأتذكر أنني كتبت في العام (1986) قصيدة (عن إذنك يا مصر) وهو ما جرى بعد ذلك في ثورتهم القائمة، شعرنا ثوري ملان بالزمن العتيق، لن أهتف لهم لكنني أحييهم، وأقول إن الشعر بشارة، والأنظمة أكثر ما تخافه الشعر المبشر بالخلاص.