قدر كبير من الصراحة والشفافية يتمتع بهما وزير الدولة بوزارة الخارجية، والقيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل؛ د. منصور يوسف العجب. أدناه حصيلة إجاباته على تساؤلاتنا التي طرحناها عليه حول مشاركة حزبه والمشكلات السياسية والاقتصادية التي يواجهها السودان في هذه المرحلة بجانب تصوّراته للمعالجات. لسنا في حاجة إلى القول إنّ الرجل يعدّ من طليعة الكفاءات الاقتصادية السودانية التي عملت في المنظمات العالمية، وله من الخبرات العملية في مجاله سيرة باذخة الثراء، أما المنصب الوزاري الذي يضطلع بمهامه فقد استحقّه عطفاً على المشاركة السياسية التي تواضع عليها حزبه و(المؤتمر الوطني) حيث تمّ الدفع به إلى مقدمة السلطة التنفيذية، كأحد الوجوه الجديدة في التشكيل الوزاري الأخير. فلنطالع إفاداته: { متى انضممت إلى الحزب الاتحادي الديمقراطي وما هو الدافع لذلك وأنت المحسوب دوماً على اليسار؟ - انضممت إلى الحزب الاتحادي الديمقراطي في القاهرة إبّان مفاوضات التجمع والحكومة، واخترت الحزب الاتحادي الديمقراطي رغم أنّ لي علاقات واسعة وحميمة مع كل الإخوة في القوى السياسية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وكنت قبلها في الجمعية التأسيسية في الديمقراطية الثالثة، وفي التجمّع مستقلاً.. كنت أمثل شريحة كبيرة من المواطنين لا يُستهان بها لكن في النهاية كانت تدور حولي تساؤلات من شاكلة: «من هذا؟ ويمثل مَنْ؟». أضف إلى ذلك أصبحت هناك موجة استقطاب سياسي واسعة في الساحة، وفي ظل هذه الاستقطابات لا بدّ للشخص أن ينضمّ إلى جهة من الجهات السياسية، ورغم علاقتي الواسعة مع كلّ القوى السياسية - بما فيها الحركة الشعبية - لكنني وجدت أنّ الاتحادي الديمقراطي يمثّل بالنسبة لي حزبا وسطا، وفيه درجة كبيرة من الاعتدال والتوازن، زد على ذلك أنّ الحزب هو الوحيد صاحب الوجود الحقيقي ويمتلك قاعدة عريضة في منطقة أهلي ب(الدندر)، وأيّ شخص عندما يتّجه سياسياً بالضرورة لابدّ أن يذهب تجاه رغبة أهله، ولذلك قرّرت الانضمام إلى الحزب الاتحادي بمحض إرادتي، وليس عبر أيّ ضغوط مورست عليّ. أما أنّني محسوب على اليسار، فأنا أعتبر نفسي اشتراكيا اجتماعيا وعشت في بيئتي نوعاً من حياة (الاشتراكية العفوية)، ولم تأتني مستوردة، حيث مارست كلّ طقوس حياة البداوة، من الرعي والصيد والعمل في الزراعة بصورة جماعية (النفير)، وأنا من ناس البادية الذين من الصعوبة أن تقيّدهم بحزب، وأسرتي لها صداقات واسعة مع كلّ القوى السياسية؛ يمينا ويسارا. زِد على ذلك عندما ذهبت إلى بريطانيا وجدت كلّ ألوان الطيف السياسي، وكما قال صديقي العزيز الشيخ راشد الغنوشي: وجودي في بريطانيا عمّق احترامي للديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة القانون، وهذه إن شئت سمّها اشتراكية..!! نحن عرب بادية ليست لدينا عداوة، ونحتكم للجودية والحلول السلمية. { نريد أن نعرف شكل وجودكم في منظومة الحكومة كحزب؛ أهو مشارك أم موال يأتمر بأمر (الوطني)؟ - اسمع يا صديقي؛ نحن ننظر للشغلانة من ناحية عمليّة منتظمة، في سلسلة متواصلة، كلّ حلقة فيها تقود إلى الأخرى، تبدأ بتحقيق السلام وفضّ النزاعات. نحن دخولنا للحكومة جاء عبر برنامج، وجاء بعد مفاوضات استمرّت لأكثر من سنة. وضعنا الكثير من الشروط التي تضمن احترام أنفسنا أمام جماهيرنا والشعب السوداني، وأيضاً تحترم الطرف الآخر الذي تفاوضنا معه، وإن كنا موالين لن ندخل، وحكاية الموالاة دي لرب العالمين وأنا شخصياً (لا أوالي راجل)، وأفتكر الطرف الذي دخلنا معه إذا دعم موقفنا - بالطريقة التي تليق بوزن الحزب – فإنّ هذا سيساعد كثيراً في وحدة الصف السوداني، خاصّة أنّنا ننادي بوفاق وطني شامل، ومبادرة مولانا الميرغني للوفاق الوطني الشامل تأتي في هذا الإطار، وطبعاً لا يمكن تنادي بالوفاق وتدعو للاحتراب في نفس الوقت..!! نحن بهذا دخلنا مشاركين وليس موالين ولا نتبع لأحد. { طيب أنتم حزب مشارك، بالضرورة لكم برامج وأهداف للعمل في إطارها خلال هذه المشاركة ولكن يؤخذ عليكم أنها ليست بادية للعيان الآن!! - كيف ما في برامج ولا أهداف..؟! (معليش أنت لا تستطيع أن تستفزني). { لا أريد استفزازك لكن أسألك؛ حديثك أنت ذكرت خلاله أن مشاركتكم جاءت لأجل التغلّب على تحديّات تواجه الوطن، هذا لابدّ أن يستند على برنامج ومعالجات محدّدة في الاقتصاد والأمن والسياسة والواقع الاجتماعي..!! - كما قلت لك.. هذه عملية منتظمة في سلسلة، كلّ حلقة تقود إلى الأخرى، بدأت باتفاق جدة الإطاري، ثم اتفاق القاهرة مع التجمع الذي حوى جملة من المعالجات للقضايا الأساسية، وبعدها جاءت مبادرة مولانا الميرغني للوفاق الشامل، ونسعى الآن لتطوير جمعية الوحدة بعد الانفصال لتصبح جمعية الإخاء والتقارب مع إخوتنا في الجنوب. لدينا كذلك دراسات سبقت المشاركة لمعرفة سلبياتها وإيجابياتها، وهناك برنامج اقتصادي ودراسة حول الدستور والوضع السياسي وهي كلها سبقت قرار المشاركة الذي جاء على ضوئها. القرار بالمشاركة تمّ بإجماع المكتب السياسي والقيادي رغم الصراع والجدل الشديد الذي دار، لكن في النهاية الناس خضعت لقرار الإجماع على المشاركة. { ما هي مواطن الخلل تحديداً التي تريدون معالجتها من خلال مشاركتكم؟ - (أفتكر) هناك حلول ومعالجات كبيرة تمت في الآونة الأخيرة بالنسبة لدارفور، والحزب الاتحادي يرى ضرورة مشاركته في الحكومة لعدّة اعتبارات في مقدمتها الوطن والمواطن. السودان مواجه بمهدّدات كبيرة جداً، ونحن كحزب كبير حقّق الاستقلال لا يمكن أن نقف متفرجين على الرصيف. هناك أزمة اقتصادية ظهرت بعد انفصال الجنوب، ونحن كحزب لدينا الكثير من الكفاءات الاقتصادية، في إطار تواصلهم مع المؤسسات الاقتصادية بالدولة يمكن أن يسهموا في تقديم حلول للتغلّب على هذه الأزمة. أضف إلى ذلك لا زلنا نرى إمكانية أن ينجذب إخوتنا الجنوبيون للتعايش معنا. طبعاً مسألة إعادة الوحدة أصبحت صعبة، لكن ممكن إطار وحدوي جديد - كونفدرالي أو ما شابه ذلك - ونسعى في ذلك بخطى حثيثة، بجانب عملية الوفاق بين كل القوى السياسية، لأنّها ستساعد كثيراً في معالجة العديد من القضايا. بالنسبة لمحكمة الجنايات الدولية فنحن نرى أنّ هناك خطأ من مجلس الأمن، (فإذا الناس عملوا شغل دبلوماسي بطريقة كويسة ما كان ممكن لهذا الخطأ من مجلس الأمن أن يمر) لأنّ أوكامبو طرح القضية بطريقة سياسية وليست قانونية، ونحن كحزب مع توطين العدالة. { ماذا تقصد بتوطين العدالة؟ - أن نصحّح موقفنا في الداخل في ما يتعلق بجهازنا القضائي. بإنجاز العدالة تصحّح هذه المسائل، وبهذه الحالة نكون بمستوى نستطيع حسم قضايانا داخلياً. نحن ضد التدخّلات الخارجية لأنّ لدينا قناعة راسخة؛ ليس هناك تدخل خارجي يأتي لخدمة قضية الوطن، وإذا تمّ يأتي ومعه (كرزاي بتاعو) جاهز، ومن الصعب إخراجه، وله توابع في مقدّمتها تحوير وتعقيد الصراع، ويجعل أبناء الوطن لا يمكن أن يساووا خلافاتهم سواء عبر الجودية السائدة أو غيرها.. ولمعلوميتك؛ الحلول التقليدية لفضّ النزاعات في السودان تدرّس في جامعة أكسفورد، لذلك نحن إذا جلسنا كسودانيين مهما اختلفنا وواجهنا بعضنا أرحم من التدخل الأجنبي بيننا. { ما هي الاشتراطات التي ينبغي توفّرها حتّى تكون مشاركتكم بداية لحكم رشيد؟ - الحكم الرشيد في مقدمة مطالبه التداول السلمي للسلطة، ثمّ الشفافية والمحاسبة، وتمليك كافة المعلومات للصحافة التي ينبغي أن تكون مدرّبة ومؤهّلة بدلاً من اعتمادها على المعلومات التي تأتي من خارج الوطن، وأن تكون لها حريّة تستقي بها المعلومات من الداخل.. هذا ما يقودنا للحكم الرشيد، وإعادة هيكلة جهاز الدولة يبدأ بالخدمة المدنية واستقلال القضاء واحترام حقوق الإنسان ومحاربة الفساد. بالمناسبة الفساد لا يحارب بالقانون وإنما عبر الانفراج السياسي والصحافة المستقلة والمشاركة الشعبية الحقيقية في الحكم، والآن كوّنت مفوضية برئاسة أخينا الطيب أبو قناية لمحاربة الفساد، وطبعاً الفساد لا يمكن كشفه إلا إذا اختلفت أطرافه على طريقة (إذا اختلف اللصان ظهر المسروق)..!! { إذن ما المقومات والضمانات التي توفّرت لنجاح اتفاقكم الأخير وغابت عن الاتفاقيات السابقة؟ - المصداقية في التعامل والاحترام المتبادل بين الأطراف بطريقة تعكس وزنها الحقيقي، هذه أهمّ مقومات نجاح الاتفاق، وفي المرحلة السابقة مقوّمات النجاح هذه لم تكن غائبة، ولكن في ظل الشدّ والجذب ليس من السهل أن يتم تنفيذ الاتفاق بطريقة سلسة. الآن المسألة هدأت وأخذ الناس يسيرون في اتجاه الحلول بالتفاوض والحوار، وفي تقديري ما اتفقنا عليه بدأت نتائجه تظهر في الميزانية الأخيرة التي استهدفت حاجة المواطن، وكذلك البرامج الإستراتيجية التي وضعت في البرنامج الثلاثي الذي همّه الأساسي توسيع القاعدة الإنتاجية وأصبح هذا البرنامج يتصدى لأشياء كانت مهملة في الماضي، مثل القطاعات الإنتاجية (كانت مهملة بسبب وجود البترول)، لذلك نرى لابد أن نركّز في المرحلة الحالية على القاعدة الإنتاجية. إضافة إلى ذلك نحن ماضون في إصلاحات هيكلية حتى في وزارة الخارجية، (عندنا هنا) هناك إصلاحات هيكلية تتم لتطوير الكفاءات والفاعلية حتى تتوفر مكاسب غير مرئية. أما الجانب السياسي فهناك انفراج سياسي لا أقول بنسبة 100% وطبعاً العافية درجات وهذا النفاج الذي انفتح لا يمكن أن يغلق، وطبعاً مسألة الإصلاحات عندما تبدأ لن تتوقف. (ما ممكن) تكون في القرن (21) وتسبح عكس التيار..!! و(ما في) في الدنيا دولة تكون عنيدة إلى ما لا نهاية..!! يا صديقي الدولة مهما بلغت قوّتها لا يمكن أن تستمر بالإجراءات الفوقية، لأنه في النهاية القوانين الموضوعية الاقتصادية تبدأ تعضّ وتصبح ما عندك طريقة إما أن تستجيب أو حقّك يروح، و(أفتكر الناس وعت الدرس)، وعرفوا أنّ هذه المرحلة لابدّ أن يتمّ فيها التركيز على القطاعات الإنتاجية ولا بدّ من تخفيض الصرف الجزافي ولا بدّ من دفع عجلة الاقتصاد وإنشاء البنيات التحتية والخدمات المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية، ويهمّنا في الوقت الرّاهن أن يكون لدينا الكثير من العلاقات الودية مع العالم الخارجي في جانب الاقتصاد والمصالح المشتركة وليس كدولة تابعة. { إلى أيّ مدى أنت متفائل بتنفيذ ما أشرت إليه دون أن يحدث شدّ وتشنّجات كتلك التي صاحبت مسيرة الشراكة مع الحركة الشعبية من قبل؟ - والله أفتكر مستوى الثقة والمصداقية المتوفّر لن يوصلنا لمرحلة الشدّ والتشنّج، وطبعاً الموقف في هذه المرحلة مختلف عن المرحلة التي أشرت إليها، لأنّ (الناس كانوا طالعين من حرب) والثقة غائبة، وكانت هناك عناصر (لا يرضيها العجب ولا الصيام في رجب)..!! { (مقاطعة) عناصر مثل مَنْ؟! - أنا لا أسميهم.. أنت تعرفهم من خلال متابعتك في سياق عملك..!! - (يواصل).. - هذه العناصر كانت لديها مسائل خاصة بتصفية الحسابات، ونحن ضدّ هذا النهج، لأنّنا نرى أنّ الزعيم أو القائد يجب عليه أن يسمو فوق جراحاته ويترفّع عن تصفية الحسابات والحزازات الشخصية، لأن المسائل الذاتية عندما تختلط بالشأن الخاص - يعني بمجرد أن تشخصن المسائل - تفقد المصداقية، والموقف الآن يختلف عن فترة اتفاق (نيفاشا) و(القاهرة). نحن اليوم أمام ضائقة معيشية تطحن المواطن وأزمات، لذلك شعرنا أنّ هناك ضرورة وطنية تستدعي أن يضع كلّ السودانيين أيديهم فوق بعضها حتى نستطيع (نخارج البلد) من مأزقه. لذلك لا يمكن مقارنة المرحلة السابقة بالحالية. هناك أزمات في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور (تولّع يوم وتنطفي يوم)، وأنا أقول لأيّ سوداني حادب على مصلحة الوطن أن يأتي لنتحمل هذه المسؤولية، ونحن كحزب لا يمكن أن نقف نتفرج (عشان ما بعد شوية نقعد نأذّن في «صحراء العتمور»)..!! أنا شخصياً لا يمكن أن أتفرّج.. (إنت تفتكر منصب وزير دولة نهاية المطاف لي)؟! أنا كنت نائبا برلمانيا سنة (86)، وأوّل سوداني وأفريقي انتخبت لمعهد الدراسات الاجتماعية في هولندا سنة (74).. هذه كلها تساوي صفراً مقابل حاجة الوطن لخدمتي..!! { ثمّة مقولة تتردّد بين الفينة والأخرى فحواها إنّ كلّ من يريد المشاركة يرتدي ثوب الوطنية، ومن عداه خائن.. ما رأيك في مثل هذه التصنيفات؟ - (ما في زول ما وطني في السودان).. القيادات الموجودة الآن كلّها وطنية. مهما اختلفنا معهم في الآراء لا نتهمهم بالعمالة وخيانة الوطن، لأنّ المسألة اختلاف في وجهات النظر. ثمّ إنّ الوطنية ليست ثوبا يُلبس ويُخلع..!! نحن تاريخنا وما قدّمناه للوطن معروف، ولم نلبس ثوب الوطنية عشان الكرسي.. ولو كان على حساب الوطن..!! الكرسي لا يعني لي شيئاً.. (عليّ الطلاق) الكرسي ده اليوم الذي أحس فيه أنني لم أقدم شيئا (حرّم.. حرّم) ما أقعد فيه..!! أنا ما في راجل يبيعني أو يشتريني.. أنا دخلت بقناعة حزبي ولم أشارك بصورة فردية، والبلد دي يهمنا أمرها أكثر من أنفسنا.