{ يُحصّن حياته الخاصة بسياج يصعب اختراقه، وبالرغم من كل ذلك يحاول دائماً تحسس ما لدى عامة الناس من معلومات تتصل بتلك الحياة الخاصة التي يحياها، لعلها تسربت وهو صاحب عقيدة راسخة بأنه مهما يحرص الناس على أسرارهم فإنها تجد طريقها لكل أذن تسترق، أوحتى الآذان الغافلة يصيبها حظها من أسرار الآخرين وإن شاحت عنها. وقد بلغ به هذا الحال مبلغاً بعيداً بسبب كثافة ما يصل إليه من خفايا وأسرار، أصحابها أكثر حرصاً منه، وهي أسرار ربما تتجاوز في أهميتها وخطورتها أسرار حياته الخاصة، وكذلك يدرك أن أسرار الإنسان تنتشر ويعلمها الجميع إلا صاحبها، وهي تحوم حوله، وأمامه كلَّما دخل على جماعة قطعت حديثها قبل أن يلتقط طرفاً منه . { حياته الخاصة ليس فيها ما يختلف عن حياة الآخرين ولكنه لا يستطيع الإفصاح عن تفاصيلها حتى لا يلومه الناس بمن فيهم شركاؤه في ذات التفاصيل. وقد رسخ للناس أن العيب ليس في تلك التفاصيل، وإنما العيب في كشفها وإطلاع الناس عليها. ولهذا جميعهم يحرصون على إبقائها في طي الكتمان، وذات التفاصيل يمارسها الغربيون جهراً وتحتملها مجتمعاتهم وثقافاتهم و(سخافاتهم) وترمينا نزواتنا ورغباتنا فيها كلما تملَّكنا الضعف، والذي كثيراً ما يتملَّكنا حتى أضحت حياة الكثيرين مثل حياة مصطفى سعيد في روايات الطيب صالح وهي فطرة الناس تخطئ وتتوب وقبل ذلك تطلب الستر. { داخل تلك الحياة الخاصة التي يخشى صاحبها اختراقها وهي كلما تقدم به العمر تنضم إليها أسرار وتفاصيل جديدة، وبذات الوتيرة تنمو (حالة السياج) التي تسيطر على الرجل وقد اعتاد أن يتحرك من خلف الناس وهو يمارس كافة الأعراف الاجتماعية الذميمة ويتجمل ويتحسس كل كلمة عابرة أو حتى إيماءة شاردة قد يكون لها علاقة بسر من أسراره الدفينة، وقد فتحت عليه هذه الحالة باباً من الجحيم وهو يحتفظ بكافة التفاصيل التي تلتقطها أذنه أو تراها عينه أو ترميه فيها خواطره وتفاكيره الكثيفة، وأخيلته المُشرعة دوماً، وينفق في مواجهتها ساعات عزيزة من كل ليلة يخلد فيها إلى فراشه يحلل ويشخِّص ويستقر على فكرة قبل أن تعود أفكاره لتنسفها كما بنتها وينسج إطاراًً يغذيه بفرضيات يختبرها نهار اليوم التالي حين يلتقي بشخوصها وقد تتعزز فرضياته هذه ويتصاعد قلقه ويدخل في دوامة أخرى يطارد ما تسرَّب من أسراره لينفيه أو (يغبِّش) صورتها، وقد تنسف تلك الاختبارات ما توهمه ليلة البارحة فيطمئن قلبه. وهكذا يدفع ثمن جنوح حياته الخاصة ويتعذب مثلما يتعذب الآخرون من شروره وتعديه عليهم وعلى حياتهم الخاصة وإن سلمت من كل عيب. { بمرور الوقت يجد الرجل أن السياج الذى ضربه على أسراره يعزله هو وحده عن خفايا حياته الخاصة وقد انتشرت وأمسك بها القاصي والداني ودخلت إلى بيته وأدركتها زوجته وأولاه وبناته وهو يقرأ كل ذلك فى عيونهم دون أن يفاتحوه بما علموا وهو يجرى اختباراته التى اعتادها ولكنهم وبذكائهم الاجتماعي يتهربون منها ويدفعونه إلى الاتجاه الآخر بعيدا عن الحقيقة ولكنه لا يطمئن فعيونهم تكذب ما يدعون فيخرج إلى الناس يبحث عن الحقيقة ولكنهم مثل أهل بيته يتهربون منه، فلا أحد يريد أن يتحمل مواجهته بما يفعل والإفراج عنه وإزاحة السياج وقد أقامه هو بنفسه ويحدث كل ذلك من كافة الناس كما حدث من أهل بيته بشكل تلقائى دون أن يجرى اتفاق بينهم. { يدرك الرجل أنه صار معزولاً عن أسراره وهي تنتشر وسط العامة بسبب ذلك السياج الذي أقامه وقد أيقن أن إزاحة السياج عن حياته الخاصة هو الطريقة الوحيدة التي تجعله يلحق بأسراره ليعرف حجم ما يتداوله الناس ومن ثم يقدم مرافعته دفاعاً عن نفسه لاسيما وأن له ما يدافع به عن نفسه، على الأقل في جانب من تفاصيل حياته الخاصة وبالذات ما يتصل بفطرته وضعفه وما يضيفه تناقل الأخبار من زيادة فيها. { تنحبس أنفاسه حين يقرر البدء بأفراد أسرته ويجد عشرات الأسئلة العارية تتساقط عليه دون أن تسعفه قدراته الكبيرة فى الإقناع بإجابات شافيات تستر عري تلك الأسئلة وتبدو له فكرة إزاحة السياج عصية وهي تنهار عند أول عتبة.. عند أفراد أسرته فكيف بها أمام الناس أجمعين.