إدارة الأزمات والتفاوض الدولي من العلوم والفنون الحديثة التي برزت أهميتها نتيجة للأحداث العالمية فأصبحت تدرَّس بالجامعات ومراكز الدراسات الإستراتيجية والبحثية المتخصصة. هذا العلم والفن ينبغي أن يلم به كل من يشارك في هذا المجال. الدول المتقدمة تهتم كثيراً بهذا الجانب ولذا فإنها تقوم بإعداد مفاوضيها إعداداً جيداً ومتقدماً بتدريبهم وتأهيلهم وصقلهم حتى يبلغوا مرحلة مهنية عالية وراقية بعد اكتسابهم للخبرة والمعلومات والمهارات الفنية في كيفية إدارة الأزمات وفي كيفية المشاركة الفعَّالة في المفاوضات الدولية. لابد أن يتحلى عضو الوفد بالذكاء الخارق واللباقة وحسن الاستماع وأن يكون حاضر البديهة دوماً حتى يقدم حججاً قوية ومنطقية في تفنيد حجج الطرف الآخر. كذلك تبرز أهمية الثقة بالنفس والتحلي بالصبر وضبط النفس والابتعاد عن الانفعالات والتشنجات العصبية خلال سير المفاوضات. لابد أن تكون هنالك خطة محكمة للوفد المفاوض يتم فيها توزيع الأدوار ووضع عدة سيناريوهات وبدائل حتى يتمكنوا من قراءة أفكاره جيداً ويضعوا السيناريوهات المحتملة لأطروحاته التي سيقدمها في المفاوضات. إن اتباع هذا الأسلوب سيمكِّن الوفد المفاوض من السيطرة دائماً وأبداً على سير المفاوضات الجارية خلال كل مراحلها والإمساك بزمام الأمور في كل الأحوال حتى لا يفاجأ بموضوعات لم يتم التحسُّب لها. في كل مفاوضات السلام التي خاضها السودان كان موقفه قوياً وهذا يعتبر عاملاً مساعداً ومشجعاً لوفده المفاوض في استخدام كروت الضغط التي يمتلكها حتى ينهي جولة المفاوضات لصالحه. المفاوضات التي جرت تحت مظلة الإيقاد كان موقف السودان فيها قوياً ومسيطراً ومنتصراً ومع ذلك كانت النتيجة «كارثية» حيث قبل السودان بإعلان مبادئ الإيقاد التي كان يرفضها بقوة. كذلك ينطبق الحال على المفاوضات التي جرت بضاحية نيفاشا الكينية والتي كانت نتيجتها انفصال الجنوب. الحركة الشعبية جلست لتلك المفاوضات وهي في أضعف حالاتها نتيجة للانقسامات التي حدثت في صفوفها في مؤتمر رومبيك المشهور الذي انعقد قبل فترة قصيرة من توقيع اتفاقية السلام ومع ذلك استطاع وفد الحركة الشعبية أن يحول موقف ضعفه إلى قوة حيث تمكن من تحقيق هدفه الإستراتيجي غير المعلن وهو الاستقلال!! السودان يدخل المفاوضات وهو في مركز القوة ويخرج منها وهو في مركز الضعف!! لا شك أن هذا الموقف غريب وعجيب يدعونا للتساؤل أين يكمن الخلل؟! لا شك أنها صورة مقلوبة ينبغي أن يتم تعديلها بسرعة من أجل الحفاظ على ما تبقى من السودان!! المراقب السياسي يلاحظ أن وفد السودان المفاوض عادة ما يكون مصحوباً بعدد كبير من الخبراء والمستشارين وبعض المواطنين من أهل المنطقة التي يجري التفاوض بشأنها هذا بالإضافة إلى العودة المتكررة لرئيس الوفد المفاوض للخرطوم أثناء سير المفاوضات للتشاور. كل هذا يعتبر مؤثراً على أن المفاوض السوداني تنقصه الخبرة والدراية التامة والمعرفة بفنون التفاوض الدولي، ولهذا نجده في كل جولة مفاوضات جديدة يقوم بتقديم المزيد من التنازلات وإذا تم قبول التنازلات في ظل الوطن الواحد من أجل تحقيق السلام والحفاظ على الوحدة فإنه لا يمكن أن تقبل هذه التنازلات لعدو لئيم أصبحت له دولته المستقلة. لقد استمرأت دولة الجنوب الوليدة هذه التنازلات فأصبحت تتشدد في مواقفها لقناعتها التامة بأن وفد السودان سوف يستجيب لكل ضغوطها ومطالبها نتيجة للضغوط الخارجية. الملاحظ في خلال كل المفاوضات السابقة أن الوفد المفاوض لحكومة الجنوب هو الذي يمسك بزمام الأمور ويسيطر سيطرة تامة على سير المفاوضات في كل مراحلها ويتمسك بكل مواقفه المطروحة على طاولة المفاوضات حتى يتم تحقيقها. من الملاحظ كذلك أن بعض أعضاء وفد الحكومة يدلي بتصريحات تخدم أهداف الطرف الآخر وهذا مؤشر سلبي عادة ما يستغله وفد حكومة الجنوب لصالحه والأمثلة هنا كثيرة ولا داعي للخوض فيها لأنها تمثل نقاط ضعف. الملاحظ كذلك أن كل مظلات التفاوض يقترحها السودان وعادة ما تكون نتائجها ليس في صالحه كما حدث في مظلة الإيقاد. كل المظلات الإفريقية الأخرى غير محايدة حيث أنها تسعى لتحقيق أجندة خاصة بها ومنها ما يدعم دولة الجنوب بصورة علنية ومكشوفة. أما المجتمع الدولي والإقليمي فإنه ينحاز بصورة كبيرة إلى دولة الجنوب الوليدة باعتبار أنها هي الطرف الأضعف الذي ينبغي دعمه ومساندته حتى لا تنشأ دولة جديدة فاشلة وغير قابلة للحياة بالمنطقة. خلاصة القول السودان أصبح يخوض المفاوضات وظهره مكشوف وخصمه مدعوم دولياً وإقليمياً وكل هذا يؤكد أن السودان قد أصبح يتعرض لمؤامرة دولية وإقليمية تستهدف وحدته وكيانه. مظلات التفاوض الحالية غير مجدية وتعتبر مضيعة للوقت والمصالح العليا للبلاد تتطلب البحث عن مظلات أخرى بديلة ووسط آخر محايد له المصلحة في وصول الطرفين إلى اتفاق مرضٍ. لابد للوسيط المحايد أن يملك كروت ضغط على الطرفين من أجل الحفاظ على الأمن الإقليمي والأمن والسلم الدوليين لأن هذه الصراعات إذا ما تطورت فستكون لها انعكاساتها السلبية على الأمن القومي والدولي. الوسيط الجديد المناسب يمثله الشركاء كالصين وماليزيا والهند وتمثله الشركات العاملة في إنتاج البترول وعن طريق هذا الوسيط يمكن تجاوز ملف النفط في أقصر وقت ممكن لأن هذا الوسيط يملك كروت ضغط على الطرفين. الملاحظ أن الوفد الحكومي المفاوض قد سبق له أن شارك في مفاوضات اتفاقية نيفاشا «الكارثة» وتلك مرحلة انتهت بخيرها وشرها ونحن الآن أمام مرحلة جديدة ولكل مرحلة رجالها خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن الوفد المفاوض قد أصبح كتاباً محفوظاً للطرف الآخر. المرحلة الحالية تتطلب إرادة سياسية قوية وعدم تقديم أي تنازلات تعبر عن حسن نية أو خلاف ذلك لأن العدو ينظر لهذه التنازلات على أساس أنها تأتي من موقف ضعف للحكومة. سياسة السودان الخارجية تقوم على العزة والمنعة التي تصون القيم الفاضلة التي يتحلى بها الشعب السوداني ولابد من الحفاظ على ذلك. جوبا استخدمت سلاح النفط لتأزيم الضائقة الاقتصادية بالخرطوم وإذا ما حققت نجاحاً في ذلك فسوف يغريها هذا النجاح في تحويل النيل الأبيض إلى خور كما فعلت إسرائيل بنهر الأردن!! كم يكون جميلاً لو بادرت الخرطوم بإعلان موافقتها على الخطوة التي قامت بها جوبا بوقف ضخ بترولها من جانب واحد ويا حبذا لو تم الإعلان عن رفض الخرطوم لتصدير بترول الجنوب مرة أخرى عبر الشمال حتى ولو طرحت جوبا القسمة السابقة 50% مع الإعلان عن قفل الحدود مع دولة الجنوب. لقد لعب الإعلام دوراً سلبياً حيث أنه شجع حكومة الجنوب على وقف ضخ بترولها نسبة لأنه صوَّر السودان وكأنه يتهافت على بترول الجنوب للخروج من أزمته المالية الحالية التي ربما تقود إلى انهيار الدولة نتيجة لفقدانها لعائدات بترول الجنوب. لقد فات على أجهزة الإعلام والخبراء الاقتصاديين أن الجنوب قد كان يمثل عبئاً ثقيلاً على السودان لأنه إقليم غير منتج كما فات على هؤلاء أيضاً أن مشروع الجزيرة كان يمثل العمود الفقري لاقتصاد السودان عندما لم يكن البترول معروفاً خلال تلك الفترة. ختاماً المرحلة الحالية تتطلب إعداد القوة وحشد وتنظيم كل الجهود والطاقات والإمكانات وتوظيفها بأسبقيات محددة مع الإسراع في تنفيذ اتفاقية سلام دارفور وتحقيق الوفاق الوطني كما تبرز أهمية وضع إستراتيجية جديدة للمفاوضات بوجوه جديدة من أجل الحفاظ على ما تبقى من السودان. وبالله التوفيق. فريق أول ركن/ زمالة كلية الدفاع الوطني - أكاديمية نميري العسكرية العليا