في كتاب (50 عاماً في قطار الصحافة) للأستاذ موسى صبري، وفي صفحة (554) تقرأ ما يلي: «واستطاع عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني أن يرتب انقلاباً عسكرياً مع عدد من ضباط الجيش الشيوعيين، واعتقل الانقلاب الرئيس جعفر نميري في إحدى غرف قصر الرئاسة، وظل ثلاثة أيام بلا نوم ولا طعام لا يدري شيئاً عما يجري في الخارج». وقبل الاسترسال مع الصحافي المصري الكبير، نتوقف قليلاً مع تلك الأيام العصيبة التي أمضاها الرئيس نميري معتقلاً في غرفة بالقصر الجمهوري وهي الأيام الممتدة من 19 يوليو إلى 22 يوليو 1971م. ولقد تعرَّض خلالها منذ لحظة اعتقاله في بيته بالقيادة العامة مروراً بنقله حافياً واقفاً بإحدى عربات الجيش حتى وصوله إلى القصر لأقسى وأبشع وأفظع الإساءات والإهانات، بل أنه تعرَّض للضرب والذي يمكن أن يستنتج من ذلك أنه إذا ما استمر الانقلاب الشيوعي لكان القتل هو مصيره المؤكد. ففي كل الأقطار التي وصل فيها الشيوعيون إلى الحكم في الاتحاد السوفيتي والصين وأوروبا الشرقية، فإن قتل الخصوم كان يأتي في مقدمة الإجراءات التي يُنفذها الرفاق. ثم عاد نميري إلى السلطة بإرادة الجيش والشعب وحتى بعد عودة الحياة الحزبية بعد الإطاحة بالنظام المايوي في أبريل 1985م. فإن الحزب الشيوعي السوداني لم يستطع أن يعود إلى سابق أيامه الزاهيات، ثم صعَّب هذه المهمة زوال الاتحاد السوفيتي ومعسكره من الوجود مطلع تسعينيات القرن الماضي- ثم صعَّبها أكثر وفاة سكرتيره المحبوب الأستاذ محمد إبراهيم نُقد. ولم يعتر الذبول الحزب الشيوعي السوداني وحده، وإنما اعترى كل الأحزاب وفي المقدمة منها الحزبان الكبيران التاريخيان الاتحادي الديمقراطي والأمة. ولم يعودا يعنيان ذلك الذي كانا يعنيانه في الماضي القريب. وضعف الأحزاب في مقدمة الأسباب التي تُضعف الديمقراطية السودانية، والديمقراطية القادرة على الاستمرار هي تلك التي نعيش في ظلها وتمارسها الأحزاب القوية الفاعلة المؤثرة. وقال موسى صبري، وكان زار الخرطوم بعد دحر الانقلاب الشيوعي «وأرسلوا لي في الصباح المبكر سيارة عسكرية ورأيت جعفر نميري وكان يشرف بنفسه على التحقيقات التي جرت مع المشتركين في الانقلاب ويتابع أنباء القبض عليهم. وقال لي إنه لم ينم منذ أربعة أيام وكان قد أصدر قرارات بتشكيل محكمة عسكرية وبتنفيذ أحكام على الفور. وقد تم ضبط كل وثائق الانقلاب وبياناته ومحاضر الاجتماعات الشيوعية التي تقرر فيها الانقلاب، واختير فيها أعضاء الوزارة الجديدة. وكان قد تم القبض على الشفيع أحمد الشيخ وهو قطب مهم في الحركة العمالية الشيوعية، وسكرتير اتحاد العمال وتم إعدامه شنقاً وكان عبد الخالق محجوب هارباً ثم تم القبض عليه. وكان نميري يتولى مناقشة قيادات الانقلاب، وأمضيت اليوم بطوله جالساً إلى يمين مكتب نميري أرتب كل ما يجري وكانت مشاهد رهيبة». لقد كتب الأستاذ موسى صبري ما رآه ورغم أنه لم يكن شيوعياً وأنه كان يُكِن كثيراً من المحبة والتقدير للرئيس جعفر محمد نميري، إلا أن ما كتبه بنظر البعض -ونحن منهم- هو الأقرب إلى الحقيقة التي تجنبها فيما بعد كثير ممن كتبوا عن تلك الأيام الرهيبة، ولم يكونوا شهود عيان كما كان الأستاذ موسى صبري