لم التقه يوماً، ولا تعرفت إليه إلا بعد أن تقلد منصب وزير الداخلية الذي يعني بالضرورة كل الشعب السوداني وأنا منهم. وكان الرجل قد عرف حينها بوقاره وهدوئه ووداعته، غير أن المنايا لم تمهله طويلاً فتوفاه الله ذات سبت ميتة مفاجئة فجعت لها البلاد بطولها وعرضها. ومضت الأيام والشهور وأخذتنا الحياة بعيداً كدأبها في خداعنا باللهاث خلفها دون هدى. ثم تلقيت الدعوة من المكتب الصحفي للشرطة للمشاركة في تأبين (د. أحمد العاص) وفاءً لما قدمه في العمل العام والطوعي، والذي بذلت فيه اللجنة القومية المعنية بالتنظيم والاعداد لهذا التأبين جهداً مقدراً انعكس نظاماً واناقة، وتبدى في مقدار الحضور الكريم من الشخصيات المهمة والعامة والمبدعة رغم أن الحفل قد أقيم مساء الجمعة الماضي وقد اعتاد الناس على التقاعس حينها والاكتفاء بتلبية دعوات المناسبات الخاصة والأسرية على وجه التحديد. ولكن امتلأت قاعة الصداقة بأصحاب العمامات وسيدات الثوب السوداني الحشيم، وتفتقت جراح الجميع حالما عرض علينا الفيلم الوثائقي الحميم الذي يؤرخ للرجل المدهش الذي لم اكن أعرف عنه الكثير مما زاد حزني واساي. وبينما تعالى نشيج انتحاب الحرائر كانت لقطات عزيزة من مراحل حياة الفقيد الثرة تتابع أمام أعيننا تحكي عن مسيرته الطويلة منذ كان طفلاً ترعرع في رحاب (كبوشية) التي شكلت ملامحه البسيطة وكرمه الفياض وبسالته وطيبته معاً، مروراً ب(دبلن) الإيرلندية التي قصدها طلباً للعلم ودرجاته الرفيعة فاصبح فيها نصيراً للإسلام وداعية أسهم بفاعلية في تأسيس مسجد دبلن الذي سيشهد على أياديه البيضاء طويلاً هو ومن زامله حينها من أفراد الجالية الإسلامية على وجه العموم. وكان د. العاص عليه الرحمة قد تخصص في الطب البيطري وبحوثه وحقق فيه الكثير من الانجازات حينما تقلد مناصب قيادية في هذا الاطار بالتزامن مع العمل الطوعي الذي بدأه باكراً ووصل فيه ان كان الامين العام لمنظمة الدعوة الاسلامية وبعدها الوكالة الاسلامية للاغاثة ومعتمدية اللاجئين وكلها مواقع تشهد له بالتجرد والنبل والتكافل ومعاونة كل محتاج وضعيف من الارامل والايتام والنازحين واصحاب العوز المادي والمعنوي في كل بقاع النزوح وخطوط التماس والاماكن الطرفية الهامشية. أما تاريخه الامني فيبدأ بجهاز الامن والمخابرات الخارجي ولا ينتهي بتقلده منصب وزير الداخلية لأن رجال بسط الامن والامان في بلادي لا تنتهي مهامهم بزوال مناصبهم ولكنها تمتد تشاوراً ومناصحة ومقترحات. ويحمل رجال الداخلية وقادة الشرطة الكثير من المودة والعرفان للدكتور أحمد العاص لذلك شكلوا حضوراً كبيراً ومقدراً في ذلكم التأبين على مستويات رفيعة وقاعدية ولم يألوا جهداً في المشاركة ومد يد العون للجنة القومية التي قامت بأمر التأبين وهذا يدل على التوقير والتقدير والعرفان المطلوب لا سيما وأن الفقيد قد ارتحل وهو يقوم بمهامه العملية اليومية دون كلل. وتم هذا التأبين الأنيق تحت رعاية د. نافع علي نافع الذي شارك بالحديث سارداً مناقب الفقيد ومن قبله الأستاذ إبراهيم محمود وزير الداخلية، مؤكدين عزمهم على تخليد ذكرى العاص والمضي قدماً في كل المشاريع القيمة التي بدأها. ومن بين احزانهم الكبيرة المتجددة تحدثت خولة ابنة المرحوم ومن بعدها شقيقه جعفر العاص عميد الاسرة شاكرين اللجنة والحضور معربين عن حزنهم وسعادتهم معاً لأن (د. العاص) وجد كل هذا التقدير من كل من زاملهم في العمل ومن الاصدقاء وحتى من أولئك الشعراء الذين شاركهم اهتماماته الأدبية فرثوه يومها كأروع ما يكون الرثاء لا سيما القصيدة التي تلاها (الفرجوني) في صوت حزين هادئ دخل كل القلوب واستدر الدمع السخين الذي لم يجف رغم وداعنا الأخير للعاص. { تلويح: ألا رحم الله د. العاص بقدر عطائه واسكنه فسيح جناته... وجعلنا قادرين دوماً على بذل الوفاء لأهل العطاء