العنصر المهم الذي افتقدته العملية الانتخابية الأخيرة التي شهدتها بلادنا هو عنصر الشفافية! فانعدام الشفافية وعدم الحرص عليها تجلى بصورة واضحة لاحظها وشهد بها حتى (صغار) رياض الأطفال في الأحياء وعايشها الكثير من الناخبين الذين ما يزال بعضهم لا يصدق ولا يتخيل ما حدث! وما حدث يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن ما بيننا والديمقراطية ملايين الأميال وآلاف السنين ومراحل كثيرة، يتعين على شعبنا أن يمر بها حتى يتمكن من ممارسة الديمقراطية بصورة شفافة تعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر! والمنظر الذي لن يغيب عن مخيلتي ولن يبارح ذاكرتي هو مشهد ذلك المرشح المسكين الذي أخذ أسرته التي يتجاوز عددها الثلاثين فرداً ما بين أب وأم وأخ وأخت وزوجة وابن وابنة فلم يحصل على أكثر من صوت واحد ادعت إحدى الجارات أنه صوتها وليس صوت سواها! وهناك الكثير من المشاهد والأحداث التي أصبحت مصدر سخرية وتندر في المجالس و(الصوالين) وصيوانات الأفراح والأتراح وكل مكان يتجمع فيه الناس! المهم، إن أمر الانتخابات وما أفرزته من نتائج يجب أن يكون محل دراسة أهل الفكر والرأي وعلى مختلف ألوان طيفهم السياسي والاجتماعي والثقافي إذ لا يعقل أبداً أن يتفق الناس على حزب من الأحزاب مهما كان وزنه وقدره خاصة في بلاد يطحنها الفقر وتتناهشها غيلان الجوع والمسغبة وارتفاع معدلات التضخم وطوابير العطالة ويتفشى فيها الفساد الذي ظل محل حديث واهتمام المنظمات الدولية! والبشرية عبر تاريخها الطويل لم تجمع على شيء ولا يعقل أن تجمع على شيء بدليل أن الاختلاف في الرأي والفكر والتوجه هو الظاهرة الصحية التي تدفع الأمم إلى مراقي التطور والتقدم. وكما يقول المثل (لو لا اختلاف الأمزجة لبارت السلع)، وبدليل قوله تعالى «ولو لا دفعُ الله الناس بعضهم ببعض لهدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً»، وأيضاً قوله تعالى «لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» صدق الله العظيم. ونتائج هذه الانتخابات تشير إلى أحد احتمالين هما إما أن يكون شعبنا الطيب الكريم شعباً غير عادي ولا مثيل له في الأرض أو أن يكون هنالك شيء ما، قاد إلى عدم شفافية هذه الانتخابات، وهذان الأمران أحلاهما مُرٌّ! وقبل أن يتم إنهاء العملية الانتخابية وقبل أن يكتمل الانتخاب ويتم فرز الأصوات بدأ أهلنا في حزب المؤتمر الوطني يتحدثون عن أهمية الحكومة القومية وضرورة مشاركة كل الأحزاب الكبيرة فيها. والدعوة للمشاركة في الحكومة القومية هو الفخ الثاني الذي يسعى أهل المؤتمر الوطني لنصبه بعناية فائقة للأحزاب الكبرى بعد أن وقع بعضها في الفخ الأول وهو فخ المشاركة في الانتخابات التي أكدت التجربة والمراحل التي صاحبتها أن الإعداد لها من قبل المفوضية القومية للانتخابات لم يكن مكتملاً مما أدى إلى الكثير من المشاكل والاحتجاجات وأدى إلى إعادة الانتخابات في عدد من الدوائر التي لم يجد فيها بعض المرشحين أسماءهم ورموزهم! أقول إنه الفخ الثاني لأن الأمر المتبقي من تنفيذ دستور نيفاشا هو الاستفتاء على بقاء الجنوب ضمن السودان الموحد أو انفصاله! والأحزاب التي لم تشارك في دستور نيفاشا ولا في بنود الاتفاقية التي فرضت عليها قسراً يجب أن لا تشارك في الحكومة القومية التي يتعين عليها أن تتحمل تبعات الاستفتاء. وهنا نسوق النصيحة للحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل بقيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني أن يمتنع عن المشاركة في تلك الحكومة القومية المزمع تشكيلها وأن يكثف الحزب جهوده من أجل إقناع إخوتنا في الجنوب بضرورة التمسك بالوحدة الطوعية إذ أن القاعدة الاتحادية العريضة يجب أن لا تتحمل أي مسؤولية عن نتائج استفتاء كل المعطيات تشير إلى أنه سينتهي إلى فصل الجنوب. لقد أخطأ الحزب وهو يوافق على المشاركة في انتخابات لم تتوفر مقوماتها الأساسية ولم تتوفر لها وسائل الحيدة والنزاهة إذ أكدت التجربة أن المفوضية منحازة تماماً للمؤتمر الوطني وأن ضباط الانتخابات من أهل المؤتمر الوطني وأن اللجان الشعبية التي ظلت تصدر شهادات السكن قبل دقائق معدودات من دخول المواطن لمراكز الاقتراع هي من أذرع المؤتمر الوطني وأن (العرِّيفين) هم من أهل المؤتمر الوطني بجانب أشياء أخرى، وكلها مسائل أدت إلى عدم الشفافية التي يتحدث عنها الناس وتلوكها ألسن الأحزاب المشاركة والمقاطعة للانتخابات. لكل ذلك فعلى قيادة الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل أن تعمل بالمثل القائل (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وعليها أن ترفض بكل حزم الدعوة للمشاركة في الحكومة القومية وأن تترك أهل المؤتمر الوطني وحدهم يتحملون مسؤولية ما سيسفر عنه الاستفتاء لأن من زرع زرعاً عليه أن يقوم بجني حصاده وحده! إن على حزب الحركة الوطنية أن يكثِّف نشاطه مع القيادات الجنوبية وكل أهل الجنوب من أجل التصويت للوحدة الطوعية ومن أجل الحفاظ على وحدة السودان تراباً وشعباً، وأن يستغل كل علاقاته الإقليمية والدولية من أجل هذا الهدف، وأنا واثق أنه سينجح في ذلك لأنه حزب السلام والأمن والوحدة والتنمية. إن حزباً حكم السودان منفرداً ومؤتلفاً وحقق من الإنجازات الوطنية والقومية ما حقق؛ لا يمكن أن يسيل لعابه لمجرد منحه ثلاث أو أربع وزارات لا تسمن ولا تغني من جوع، ودونكم مشاركة الحزب المسجل الذي أضحى ألعوبة في يد المؤتمر الوطني ودمية يحركها كيف ومتى شاء! وعلى جماهير حزبنا العملاق الوطنية أن تقف صفاً متيناً من أجل رفض الدعوة للمشاركة في ما يسمى بالحكومة القومية. هل بلغت اللهم فاشهد،،،