هل تشعر هذه الأيام بحرارة الجو؟ أظنك قلت نعم.. لكونك تعيش أيام شهر مايو. هل فكرتَ في الأضرار الصحية التي تصيبك جراء الشمس اللاهبة التي تحسها؟ بكل تأكيد لن تنسى هجمات فيروس مرض السحائي، وجفاف البشرة بفعل التعرُّض لحرارة الشمس.. هل فكرتَ في المقاومة الأولية التي يمكن أن تدفع بها لاحتمالات إصابتك بأيٍ من الأعراض الصحية أعلاه؟ إن لم تفكِّر حتى الآن، فإن أطفالاً لا تتعدى أعمارهم العشرين عاماً قاموا إنابة عنك بتوفير الحد الأدنى من تلطيف الأجواء، فاختاروا لهم استثماراً ناجحاً لحاجتك، قوامه (جركانة) بيضاء و4 (أكواز) من الألمونيوم وعدد مقدر من ألواح الثلج اجتاحوا بها مواطن أقدام المارة في الأسواق وأماكن التجمعات مثلما فعل الصبي. (النضيف الشيخ)، أحد بائعي المياه ذي الأربعة عشر ربيعاً، أجبرته ظروفه لترك أسرته وذويه بأم روابة وأتى للخرطوم حتى يوفر بعض الدخل له ولأسرته، إذ هو أكبر إخوته. ترك الدراسة باكراً منذ المستوى الرابع وأبيه يعمل سائقاً، قال إنه أتجه لهذه المهنة حتى يوفر مصروف له ولأسرته. وقال إن سعر لوح «الثلج» ب(4) جنيهات وأن دخله مناسب ولكنه أحياناً يجد مضايقات من بعض الناس. فهناك من يشرب دون أن يدفع، وقال إن فصل الصيف يكون الربح فيه أكثر نسبة للإقبال الواسع من الناس على المياه. أما محمد أحمد، فقد أتى من مدينة ربك ويُقيم مع مجموعة من أصدقائه في منزل يتشاركون فيه دفع الإيجار الشهري وهو أكبر إخوته ويمتهن هذه المهنة في الإجازة فقط. وقال إن بيع المياه يعتبر مصدر دخل بالنسبة له فأمه ربة منزل وأبيه يعمل سائقاً وقال لا مشكلة في توفير المياه لأن مكانها بالقرب منهم، وأضاف أن دخله في اليوم يكون حوالي 20 - 25 جنيهاً خصوصاً في فترة الصيف. ويتفق معه زميله فرح محمد آدم، فهو من قرية شمال الرنك تسمى (جودة) ويقيم حالياً في سوق بحري. عمره ثمانية عشر سنة ويدرس في مرحلة الأساس بالصف السابع. قال إنه في بعض الأحيان يكون دخله ما بين 10 - 12 جنيهاً يدخر منه القليل وما تبقى يصرفه على نفسه. وقال إنهم أحياناً يعانون من (الكشات) لأنهم يضطرون إلى شراء معدات جديدة أو دفع مقابل أن ترد لك معداتك المصادرة. ومن جانبه قال قمر السني أحمد، إن فصل الصيف من أكثر الفصول انتعاشاً فهو يمتلك محل للعصائر الطبيعية موسمية في فصل الصيف فقط. وقد برر ذلك بأنه يعمل في مهنة أخرى ولكن نسبة للإقبال على المشروبات الباردة في هذا الموسم يلجأ لها. وقال إنه يراعي الناحية الصحية ونظافة المحل حتى يكون مطمئناً ويكون الإقبال جيداً، فهو يعمل منذ السادسة صباحاً وحتى التاسعة مساءً. وأضاف إنه يشتري الماء حتى يعد منه العصائر. وفي ذاك السياق، قال صلاح (دوشكا) بائع جرائد أن حرارة الجو سبباً في ازدهار سوق المياه وأن الإقبال عليها كثيفاً خصوصاً أنها غير مكلفة، وقال إنه يحمل معه حافظة ماء بارد حتى يكفي نفسه من الشراء كل دقيقة وحتى لا تكون المياه خصماً على دخله. وأضاف أن سعر المياه الغازية غالٍ ومكلف، فهو لا يستطيع أن يشتريها. وتساءل قائلاً (بالرغم من أننا نملك نهر النيل بكل هيبته وعظمته إلا أننا نشكو من غلاء المياه)!!. وقال إن أي شخص يمتهن بيع المياه تكون ظروفه الشخصية قاسية حيث تضطره لذلك، لأن أي شخص لا يتحمل مثل هذه الحرارة. نجد من هم في مثل هذه الأعمار الصغيرة ويتركون تعليمهم وحياتهم الخاصة في هذه المراحل التي يكونون فيها أحوج إلى أن يعيشوها بكل حلاوتها وتفاصيلها رغم ما يعانوه من تعب وارهاق، إلا أنهم يكدحون من أجل لقمة العيش غير آبهين بما يلاقونه من مخاطر وتأثيرات سلبية عليهم وعلى أفكارهم وهم في مراحل نضج وتكوين شخصياتهم. وفي هذا الجانب أفادتنا أستاذة علم النفس والباحثة الاجتماعية الأستاذة آمال شيبون قائلة إن الأطفال في هذه السن يكونون عُرضة للتأثير السلبي بسلوك وتصرفات من هم أكبر منهم سناً لأنهم في هذه المهنة على صلة دائمة بهم. وأضافت أنها ضد عمل الأطفال في هذه المهن الهامشية إلا أن ظروفهم أجبرتهم على أن يدخلوا هذا المجال. وأضافت أن يلجأ هؤلاء الأطفال إلى أعمال تعرّضهم للمخاطر هي مسؤولية المجتمع المدني والمنظمات التي تهتم بالأطفال ورعايتهم. وهل من الممكن أن تملك هذه المنظمات القدرة على توفير العيش الكريم لهؤلاء الأطفال؟ لأنهم عندما يتركون بيئتهم الصغيرة فإن ذلك يكون ضد نموهم الفكري وضد نضجهم العقلي ولأنهم من ناحية نفسية يتأثرون باحساس الحرمان، فمن هم في مثل أعمارهم أو أندادهم يكونون في المدارس في الوقت الذي هم فيه يتعبون في بيع المياه. مؤكدة أن هناك الكثير من خريجي الجامعات السودانية يمتهنون هذه المهن الهامشية. وحذرت من خطورة أن يكون الأطفال في وسط مجتمع يشمل كل الأجناس والعادات السيئة مثل تعاطيهم المكيفات بأنواعها. فالطفل دائماً يحب التقليد حتى يثبت وجوده. ورغم كل ذلك نجد أن ارتفاع درجات الحرارة هي السبب الرئيس لانتعاش تجارة المياه بكل مصاعبها وضغوطات الحياة ولكن يظل السؤال الأهم لماذا تكون المياه غالية الثمن ونحن نملك نهر النيل بروافده؟!.