إننا نحترم مشاعر جرحى مايو، ونقدر كثيراً أحزان عائلات الذين فقدوا حيواتهم جراء مواقفهم من النظام المايوي، الذي حكم السودان وحافظ عليه وطناً ممتداً من نمولي إلى حلفا، ومن الجنينة إلى بورتسودان، طوال الفترة من 25 مايو 69 إلى 5 أبريل 1985م. ونحترم أيضاً أولئك الذين تظاهروا أكثر من مرة إلى أن توجت تلك التظاهرات صباح 6 أبريل 85 بانحياز الجيش لهم وانهيار النظام المايوي. نحترمهم جميعاً، ونقدر مشاعرهم، لكن التاريخ تاريخ، ونحن نتحدث عن يوم محدد هو 25 مايو 69 فقد صحونا ذلك الصباح على المارشات العسكرية، العلامة المسجلة للانقلاب العسكري. وكان المواطنون أو كثير منهم يتوقعونه؛ استناداً إلى ما كان يجري في الساحة السياسية، وكانوا أيضاً يشتاقون إليه. ثم أذاع العقيد جعفر نميري بيانه الأول، وكان معروفاً في الوسط السياسي العسكري، إذ اشترك في أكثر من محاولة انقلابية واعتُقل وحوكم وأُحيل إلى الاستيداع، وكان معروفاً في الوسط الكروي لاعباً في بعض الأندية الشهيرة، وكان شجاعاً كريماً محبوباً عاش حياته قبل مايو 69 بالطول والعرض في بعض مدن الوطن جنوباً وغرباً وشرقاً وشمالاً. وأذاع بابكر عوض الله، رئيس الوزراء الجديد، بيانه، وكان علماً في رأسه نار، فهو رئيس مجلس النواب الأول الذي أعلن الاستقلال من داخله، وهو رئيس القضاء في الستينيات وصاحب الدور الجليل في ثورة أكتوبر 1964م، وهو مرشح اليسار في انتخابات رئاسة الجمهورية، تلك الانتخابات التي لم تتم قط، فقد ألغاها الانقلاب العسكري الذي ترأسه العقيد نميري الذي أصبح رئيساً لمجلس قيادة الثورة، وأصبح القاضي مرشح اليسار لرئاسة الجمهورية نائباً له ورئيساً لمجلس الوزراء. وسرعان ما وجد النظام الجديد تأييداً واسعاً في الشارع السوداني جسّده موكب 2 يونيو 1969م، ذلك الموكب الرهيب المهيب، واستقبال خرافي لقيه العقيد الشاب نميري في تلك الأيام المبكرة بمدينة بورتسودان. وأيدت الانقلاب مصر وآزرته واعترفت به كل دول العالم تقريباً، وغنى المطرب الكبير وردي للنظام الجديد كما لم يغن من قبل، وغنى الموهوب محمد ميرغني، ثم غنى أبو داؤود، وسيد خليفة، وميرغني المأمون وأحمد حسن جمعة، والبلابل.. الخ. لقد أحب السودانيون قائدهم الجديد، وبادلهم نفس الحب وأكثر، ومؤكد أنه ورفاقه الضباط الشبان في مجلس قيادة الثورة كانوا يعرفون أن المهمة ليست سهلة، فهناك التخلف، والفقر، وانعدام البنيات التحتية، وهناك مشكلة الجنوب، وهناك الاتحاديون وحزب الأمة والحزب الشيوعي الذي كان حليفاً في البدايات. لكنهم اقتحموا الصعب، وطمحوا وهم في عز شبابهم، تلك الطموحات الشاسعة!! قال الشاعر وكأنه يعني العقيد نميري: وما كنتَ مِمن أدرك المُلك بالمُنى ولكنْ بأيامٍ أشبنَ النواصيا