في البدء، أقدِّم التهنئة الخالصة للتلفزيون القومي وهو يستعد للاحتفال بمناسبة مرور خمسين عاماً على إطلاقه عبر الأثير، في عام 1962م. وأنتهز هذه السانحة لأقيم المصالحة مع صرحنا القومي الكبير، وواجهتنا للعالم، كما أعتذر عن نقدي السابق له ولأسباب كثيرة. أول هذه الأسباب لاعتذاري؛ أنني ابن هذا التلفزيون أكثر من خمسة وعشرين عاماً تقريباً، إذ بدأت وأنا في بداية دراستي الجامعية أقرأ الشعر في مجلة التلفزيون، ثم في المجلة السياسية التي ظللت أشارك فيها أسبوعياً عبر فقرة أدب الثورة. بعد ذلك قدمت الكثير من السهرات والبرامج الثقافية والفنية، حتى جاء برنامج زملاء مهنة، الذي كان، وبشهادة الجميع، من أميز وأجمل البرامج التي قدمها التلفزيون، و ذلك خلال عامي 1988 و1989م. السبب الثاني لاعتذاري؛ أننا في وطننا الجميل نفتقد ثقافة النقد وتقبله، حتى ولو جاء من أجل الإصلاح، ولو كان نقداً ذاتياً، وأننا بمجرد ما يتم نقدنا لا نستقرئه، ولا نحاول أخذ الإيجابي منه، ونتحول فجأة إلى موقف يدعو للتجاهل، أو نعلن الحرب، ونبحث في عيوب الناقد، ونحاربه ونستهدفه. ويحدث العكس إذا ما كان الحديث يبرز الإيجابي فقط، حتى ولو كان كذباً، كلاماً ناعساً، ونسعد بالإشادة أيما سعادة. لذلك أنا أعتذر عن نقدي السابق، حتى لا يتم فهمه في الإطار العام لثقافة النقد المفقودة في وطننا، وهو ما سأتحدث عنه بإسهاب في مقال قادم. وبما أن لي علاقة وطيدة بالتلفزيون السوداني، تجعلني أؤازره في كل زمان ومكان، وفي أفراحه وأتراحه؛ سأسعد بتقديم ورقة عمل في إطار أي ورشة أو مؤتمر تقيمه إدارة التلفزيون، في زخم الاحتفالات القادمة بمرور خمسين عاماً، تأكيداً لمبدأ المصالحة والانتماء، بعد ذلك المقال الذي انتقدت فيه التلفزيون قبل أكثر من خمس سنوات، ولم يقع برداً وسلاماً على القائمين عليه في ذلك الوقت، وكان عنوان المقال (تلفزيون السودان و43 عاماً من البث التجريبي). منذ ذلك الحين والتلفزيون يشن على شخصي حرباً صامتة، كما علمت من أحد المصادر، رغم عدم قناعتي بصحة هذه الحرب، أو جدواها، وبرغم إحساسي بها، إذ نمى إلى علمي أن حبيبي تلفزيون السودان أعلن غضبه على شخصي المحب له. ولعل بعدي الطويل عن أرض الوطن الحبيب، وانشغالي بهموم كثيرة؛ لم يتح السانحة المناسبة لزيارة التلفزيون، وشرح الأسباب وراء ذلك المقال، برغم بعض العتب عليه، إذ لم يقم التلفزيون عبر علاقاته العامة أو مكتبه الصحفي بأي محاولة للرد أو الحوار في ما يتعلق بما ورد في ذلك المقال، ولم يصدر أي شيء سوى عرضحال هزيل كتبه أحد مخرجيه بصحيفة ألوان، تحدث فيه بسطحية عن بعض الجوانب الخاصة والذاتية، مع تلميحات وإيماءات سخيفة أسقطتها من ذاكرتي في حينها. بالتأكيد لم أرد على ذلك الإسفاف؛ لأنه لم يمثل وجهة نظر التلفزيون، ولم يكن نقداً يستحق الرد عليه، كما أن كاتبه - برغم ما أورده من هذيان - أعتبره صديقاً لي. والأهم من ذلك، أنني أدركت أن ثقافة النقد غير موجودة لدينا، فصمتُّ عندها مع رد مختصر جداً في (كبسولة فنية) بصفحتي (عكس الريح) بصحيفة الأضواء حينها، قلت فيه بأن ردي يا صديقي على ذلك العرضحال أنني أحبك يا رجل. نعم.. ولد تلفزيون السودان عملاقاً، كما ولدت بقية الأشياء في بلدنا الحبيب، ومر بما مرت به كل المشاريع العملاقة، مثل الخدمة المدنية، الرياضة، التعليم، البنوك، المشاريع التنموية والمشاريع الإستراتيجية، كمشروع الجزيرة؛ من تجارب وإدارات وسياسات ومتغيرات مختلفة، لم تُبنَ على معايير إستراتيجية، ثم بدأ التدهور يغزو كل مرافق الوطن، التي لم يسلم منها التلفزيون بطبيعة الحال، لكنه على الأقل لم ينهر، وتطور أخيراً في كثير من الاتجاهات، لكن تطوره ظل مرهوناً برؤية القيادة الفردية، أو توجه السلطة الحاكمة المؤقت تجاه التحولات السياسية. لم توضع له خطة إستراتيجية تحمل رؤية واضحة ورسالة لما يراد له أن يكون، وأهداف وإستراتيجيات وخطة عمل وخارطة طريق لتحقيق رؤيته ورسالته وأهدافه الإستراتيجية، التي لا تتغير بتغير الأنظمة السياسية، وموجهاتها الفكرية، لأن التلفزيون علامة ورمز لأمة سودانية يبشر بثقافاتها وفنها وعطائها الإنساني ومعرفتها، دون ما يريده الحاكم، وكما تفعل القنوات الرائدة في العالم. للحزب الحاكم والأحزاب المعارضة أن ينشئوا قنوات خاصة بهم، دون الاستئثار بقناة الوطن الواحد للترويج لمعطياتهم السياسية وتوجهاتهم وأفكارهم والدعوة والتأطير لها، مع ترك قناة الوطن تعبر عبر الفضاء الحر عن ثقافتنا وتراثنا وهويتنا وغنائنا وأشعارنا ورياضتنا، وعن سياستنا المفتوحة للجميع دون احتكار، وكل ذلك عبر الإستراتيجية التي أشرنا إليها أعلاه. نحتاج لوعي إعلامي كبير، يبدأ من قيادة الوطن العليا، وهي بلا شك تدرك أن الإعلام يلعب دوراً حيوياً في الحياة، ويستطيع إحداث تغييرات جذرية على المدى القريب والبعيد، في مجالات التنمية المختلفة. كما أن هذا التوجه يعضِّد من وجودها وحرصها الأمني كذلك، ويدعمه. اعتذار ثالث، عن أي طرح لم يكن موضوعياً في مقالي قبل خمسة أعوام، ولمس جوانب لم تكن مقبولة في إطارها العام، وهو تقصير من جانبي دون شك، إذ أن بعض المشاحنات الشخصية كانت تدور في الأفق في ذلك الوقت، وهي تجربة استقينا منها الكثير، وهكذا هي الحياة، مدرسة كبرى نتعلم فيها كل يوم كيف نهزم الإحباط في دواخلنا، لنقيم المصالحة مع الحياة ومع الآخرين. ليت التلفزيون يمد حبال الود لكل الذين انتموا إليه وقدموا الغالي والنفيس له، وأجبرتهم الظروف أو أجبروا على هجره، وهو يسكن في دواخلهم محبة وانتماءً صادقاً، وأن تتم دعوتهم للمشاركة في الإعداد والاحتفاء بهذه المناسبة المهمة في مسيرة وتاريخ تلفزيون الوطن الحبيب، وستكون بلا شك بادرة عظيمة، لا سيما إذا شملت هؤلاء المبدعين، ولم تكتف فقط بالشخصيات التي تدين بالولاء السياسي. عندها سنحضر جميعاً، وسأكون أول القادمين للمشاركة الإيجابية في أي فعالية يقيمها التلفزيون، لنُسهم في بناء طفرته الكبرى عبر محاور متعددة، أحسب أن لي فيها معرفة وتجربة عملية، جعلتني في يوم ما؛ أفكر بإطلاق فضائية خاصة، بمنهجية وفكر مختلفين، تتكامل مع ما هو موجود الآن في الفضاء السوداني، وتتفوق عليه في مجالات تخصصها، ولعلي أفعل ذلك في وقت ما، ليس ببعيد، بإذن الله تعالى. مدخل للخروج: إن كان يجمعنا حب لغرته، فليت أنّا بقدر الحب نقتسمُ.. قد زرته وسيوف الهند مغمدة، وقد نظرت إليه والسيوف دمُ.. فكان أحسن خلق الله كلهم، وكان أحسن ما في الأحسن الشيمُ.. يا أعدل الناس إلا في معاملتي، فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ.