٭ في مثل هذا اليوم من العام 1989م فقد السيد الصادق المهدي تلك النسخة (الشرعية) من حكوماته (المهدوية)، كانت حكومة شرعية برغم أن البلاد كلها يومئذ قد ذهبت في طوابير كبيرة، فأصبح للخبز طوابير، وللوقود طوابير، وللطوابير طوابير، حكومة شرعية من فرط صفوفها وطوابيرها كما لو أن شعارها أغنيتنا التراثية التي تقول (تلقى الغبش واقفين صفوف)، كان السعيد من ينقلب من صفوف تلك الحكومة الشرعية بعد ليل طويل من المكابدة والأسى ومُر الذكريات، أن ينقلب ببضع رغيفات لا يقمن صلباً. يحدثني السيد السر الكريل وكان مقرّباً جداً يومها من السيد الصادق المهدي، قال الرجل - صاحب القلب الكبير والتاريخ - لقد كان همي يوم الثورة الأول والثاني أن أوفر مولّد كهربائي صغير للسيد الصادق وهو عالق بأحد منازل حي العمارات بالخرطوم، والخرطوم التي كانت تفتقد خدمات الكهرباء، كانت أيضاً أسواقها تعاني شحاً في ماكنات مولدات الكهرباء التي أقبل الناس عليها بعدما أدبرت عنهم خدمات الكهرباء، يقول الرجل الكريل، أخيراً جداً قد عثر على هذا المولد بالسفارة الأمريكية فاشتراه بثمن مضاعف. والسيد السر الكريل حفيد أحد أبطال الثورة المهدية هو الآن عضو المكتب القيادي بالمؤتمر الوطني، والرجل الملياردير لا يمكن أن يتهم بأنه قد هاجر لأجل السلطة والثروة، فعيناه على الأقل ممتلئتان من هاتين السلعتين، كانت تلك (الحكومة الشرعية) تمتلك مائة ألف دولار كاش ببنك السودان حسب الوثائق الرسمية، وتمتلك من الدقيق والجازولين ما يكفي البلاد ليومين اثنين كاملين، وكانت حكومة شرعية ووزراؤها شرعيون، يحكى أن لصاً قد سطا على أحد المنازل ولكنه لم يجد بداخله شيئاً، فلم يملك إلا أن يدفع صاحبه ليستيقظ، ثم ليقول له (نايم فوق رأس شنو ما تقوم تروح معانا)!، كانت تلك الحكومة الشرعية في تلك الليلة والبلاد خاوية على عروشها تجامل أسرة أفراحها بحي العمارات، وبتقديرنا، والحال هذه، لا يصلح للذي تم صباح ثلاثين يونيو مسمى الانقلاب، فالانقلاب يتم بالقوة ويتبادل فيه الطرفان النار والرصاص، لكن رصاصة واحدة لم تُطلق باتجاه الثورة الجديدة، والعسكر أنفسهم كانوا عُراة حفاة يطاردون الصقور والطيور في أماكن العمليات وثورتهم الشرعية تقضي ليلة جميلة بحي العمارات، ليلة ولا ككل الليالي، إن كان الجيش لم يُطلق طلقة واحدة، ففي المقابل فإن الشعب لم يزرف دمعة واحدة على تلك النسخة المشوّهة من التعددية، ولكن قولوا لي بربكم، أليس سكوت القوات المسلحة وتدافع جماهير الشعب كان بمثابة نزع الثقة من تلك الشرعية؟ أليس كان ذلك بمثابة شرعية جديدة لثورة جديدة؟، بل ما هي قيمة الشرعية التي تفشل في أن تُطعم الجماهير (عصيدة وكسرة وخبزاً)؟! هنالك جيل بأكمله الآن ربما لا يصدق هذه الروايات، جيل يخرج كل صباح إلى قارعة الطرقات ليجد الخبز بنسخاته السبعة يصطف أمامه، النسخة البلدية والتركية والأفرنجية و.. و.. الخبز هو الآن من يقوم بدور الاصطفاف لنا في قارعة الطرقات بدلاً عن اصطفافنا له أمام المخابز و..و.. وعن الوقود حدِّث ولا حرج، فبين كل محطة وأخرى محطة، كان السودان قبل 1989م يستورد وقوداً في اليوم بما قيمته مليون دولار، ولما كنا لا نملك هذه الملايين من الدولار، كنا يومئذ نبيع مروءتنا وإرادتنا وقراراتنا في عرض البحار لنقتات بها، وكل ذلك يتم تحت علم حكومة شرعية، واليوم بعد تغطية حاجياتنا المتزايدة من النفط، فإننا نصدّر ما يغطي خمسين بالمائة من موازنتنا.. والمساحة لا تسعفني لاستكمل باقي اللوحات و.. و... ٭ وبرغم ذلك، وبعد التهاني والأماني والأشواق، فات على حكومة النفط والسدود والخبز أن تفعل الكثير لتوفير الحاجات الضرورية لهذه الجماهير الوفية التي منحتها مزيداً من الثقة والشرعية.. والله أعلم