في ظل تصاعد حركات الاحتجاج في بعض البلدان العربية، تبدو أهمية قراءة العوامل التي شكلت نتائج المرحلة السابقة، حيث تشكل محدودية النتائج السياسية في العام 2011 عامل قلق من تكرار التجربة في لبنان والجزائر والعراق. وعلى الرغم من إدراك عوامل كثيرة مؤثرة، يقتصر التناول هنا على مدى استفادة الديناميات الاجتماعية والسياسية من التغير في البيئة السياسية. وباعتبار أن الإطار التنظيمي يشكل أحد مدخلات فهم المرونة في التعامل مع التغيرات السياسية، فقد ثار جدل حول العلاقة ما بين الشكل التنظيمي والتقدم والتخلف. وفي هذا السياق، خلصت مناقشاتٌ إلى أن دخول التنظيمات الهرمية للعمل السياسي أسهم في إحباط تجربة الانتقال الديمقراطي. ويبدو هذا التوجه في النقاش عاماً للغاية، حيث تساعد المبادئ التنظيمية الحاكمة ونص اللائحة في الاقتراب من الخصائص الحيوية للحركة الاجتماعية والأحزاب السياسية، وتعطي إطاراً تفسيرياً لسلوك الحركات السياسية والاجتماعية ومواقفها. تتشارك التنظيمات في البلدان العربية، بكل أطيافها، في تعايشها مع نظم لوائح تتيح الفرصة للإفلات من الجزاء والمحاسبة. وعلى الرغم من الخلل الواضح، لم يبذل أي منها جهداً لمعالجة قصور اللائحة، بل على العكس، حافظت على إدامته أطول فترة ممكنة، ما أتاح للفساد بيئة خصبة، لم تتوفر له في بلاد ومنظمات أخرى. ففي التنظيمات المصرية، لم يحدث تقديم بيانات واضحة عن المحاسبة على الفشل المتتالي إدارياً وسياسياً، ولعل تجاهل الإخوان المسلمين والأحزاب السياسية لتفسير إخفاقاتها أو نجاحاتها سنوات وعقودا، لا يرجع للشكل التنظيمي بقدر ما يرتبط بالاعتماد على نظام لائحة مفكك مليء بالثغرات. ولهذا يصعب قبول إن عيوب النص، الشكل التنظيمي، هي السبب في تخلف الحركات السياسية، فغالب الأسباب ترجع إلى انتفاء إرادة الإصلاح لدى التركيبة القيادية، وسعيها الدائم إلى إطاحة محاولات التغيير. وعلى مستوى تصورات الدور السياسي، شكلت الروابط العابرة للدولة الوطنية، واحدة من سمات التيارات السياسية، عاملاً مباشراً لعدم استقرار علاقتها مع السلطة، فكما كانت شبكات الإسلاميين والتنظيمات الاشتراكية عامل توتر دائم، حدثت أزمات مماثلة مع المنظمات الليبرالية، كان أهمها، القضايا المتعلقة بالتمويل السياسي ومحاولة الحصول على دعم حكومات أجنبية. ومن وجهة المبادئ العامة، توجد مظاهر اتفاق واختلاف بين الأحزاب التقليدية والحركات الأيديولوجية. وتتمثل عناصر الاتفاق بمركزية صنع القرار وضعف النظام اللائحي وغياب القيادة المتمرسة، بالإضافة إلى خفّة المحتوى الفكري والتعصب للمصلحة الخاصة، فيما يكمن اختلاف المبادئ التنظيمية، وبينما تتبع الأحزاب نمطاً تقليدياً في علاقاتها الداخلية يسمح بالخروج والدخول، تتبنى الجماعات الأيديولوجية أسلوب الحشد والتجميع وراء الموقف السياسي. ولذلك، يمثل قيوداً على التحالفات المشتركة بسبب اختلاف طرق التكوين والقواعد التنظيمية. أدت هذه الخصائص إلى إخفاق محاولات بناء تنظيماتٍ متماسكة، أو تكوين جبهة لمواجهة السلطوية، وقد شكلت انقسامات الإسلاميين واليسار واحداً من مؤشرات الضعف الأيديولوجي والانحسار الفكري. وتُعَدّ انقسامات السلفية والإخوان المسلمين تعبيراً عن تراجع قدرتهم على التكيف مع التحديات المتجددة وندرة أفكارهم السياسية. وتعطي حالة التوتر بين السلفيين والإخوان المسلمين مؤشراً واضحاً على الافتراق على تصور المشروع الوطني، فبينما يقبل السلفيون العمل مع الحكومات الوطنية، يصنَّف "الإخوان" طرفاً منافساً للحكومات بغرض الوصول إلى دولة إمبراطورية، الخلافة. وعلى الرغم من تباين التوجهات، حدث تقارب في بعض القضايا. فقد سعى "الإخوان" إلى التحالف مع الحركات السلفية ضمن "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" وحزب النور بغرض الوصول إلى السلطة، غير أن غياب البرامج المشتركة وتباعد الجماعتين على مستوى العالم العربي، يفسّر، إلى حد كبير، اهتزاز الثقة في الوصول إلى توافق مشترك بشأن الإصلاح الديني، ويشكك في الأسس التي قام عليها التقارب المؤقت في العام 2012 في مصر، فيما تستمر التباينات في البلدان الأخرى. وتشير تجربة "الحوار القومي الإسلامي" إلى محدودية التلاقي بين القوميين والإسلاميين، فعلى الرغم من انعقاده عدة دورات، لم يتوصل المشاركون إلى إطار سياسي مشترك للإصلاح السياسي أو الانتقال الديمقراطي، وظهرت صعوباتٌ في التنسيق لدعم القضية الفلسطينية أو مواجهة السلطوية، وعاد تباين المواقف إلى الظهور الواضح بعد احتجاجات 2011، حيث توقفت جلسات الحوار المشترك. وتشهد حركات اليسار تراجع قدرتها التنظيمية مع التحول الاقتصادي والتعدّدية الحزبية. وبعد انتهاء الحرب الباردة، واجهت الأحزاب الاشتراكية والشيوعية تحدّيات التكيف مع هيمنة اقتصاد السوق وقضايا التحول الديمقراطي، فمن الناحية الفكرية، قبلت، بدرجات مختلفة، التعايش مع الأوضاع الجديدة، وفشلت محاولات تطوير شعار "اليسار الجديد" في الوصول إلى حالة تجانس تنظيمي. وهنا، يمكن الإشارة إلى الحراك في السودان، حيث اقتراب اليسار من السياسات العامة، ومن دون حسم موقفه من اقتصاد السوق، يدخل اليسار السوداني المرحلة الانتقالية في أجواء مغايرة، حيث يعمل بجانب حكومة تتبنّى التوجهات الليبرالية والصراع مع ميراث "الحركة الإسلامية". وتعيد هذه التناقضات تشكيل بيئة التوتر، وتدفع نحو البحث عن تحالفات جديدة لتشكيل السلطة على أساس الاستقطاب. فعلى الرغم من التجربة الاجتماعية للحركات القومية، أسهم اقترابها من السلطة، صراعاً وتعاوناً، في انحسار قاعدتها الاجتماعية، فمع التغيرات السياسية ما بعد الحقبة القومية، تغيرت قناعات قوميين كثيرين تجاه السياسات الرأسمالية، فدخلوا الأحزاب الجديدة وشغلوا مواقع وظيفية في صندوق النقد والبنك الدوليين. وبهذا المعنى، اندمج جزء مهم من الحراك القومي في برامج التحول الاقتصادي الفردي، بطريقةٍ أدت إلى وجود وعي غير متجانس بالحتميات الاشتراكية، حيث اشكل استمرار الأحزاب الاشتراكية يعمل على تكوين بيئة رافضة، نظرياً، للتحولات الاجتماعية والاقتصادية. وبشكل عام، أدت برامج التحول الاقتصادي إلى آثار متعاك