تدهشني مقدمة «المازني» الطريفة لكتابه «حصاد الهشيم».. ولو قُدِّر للمازني أن يعيش زماننا هذا وينتج صحيفة ورقية لقدَّم لعددها الأول كما قدَّم لكتابه قائلاً: إلى القارئ العزيز تجد في صحيفتنا الماثلة بين يديك.. والتي بذلنا من أجل أن ترى النور، الغالي والنفيس وبعنا كل ما نملك وتحصلنا على كل ما نقدر عليه من دعم وتسهيلات وعلاقات، وأجَّرنا لها المقر بمبالغ باهظة، ثم أعددنا لها العدة والعتاد من ماكينات وتكنولوجيا الصحافة الحديثة «وأسسنا المكاتب والعربات وأجهزة الاتصال».. ثم «عيَّنا» الكوادر الصحفية والإدارية والحسابية والعمالة الماهرة بعقود مجزية.. هذا غير ما أنفقناه من تصاريح وتصديقات وائتمانات و.. و.. إلخ. «دا كلو كوم».. فلا تحسب عزيزنا القارئ أن ذلك يعود علينا بأرباح مالية، فهي منصرفات تأسيس بدون شك تدخل من باب «المغامرة».. فهذه المرحلة الأولى ليست كما تنشئ مطعماً سياحياً يبدأ منذ الافتتاح في جني الأرباح ولا أسطولاً للنقل أو «مول» أو محال تجارية وإنما كل تجارتنا عزيزي القارئ هي هذه الإصدارة الخفيفة الوزن التي تحملها بين يديك، لكنها عظيمة وباهظة التكاليف.. وأنت تقلب صفحاتها من الصفحة الأولى وحتى السادسة عشرة «الأخيرة»، ستجد في صفحتها الأولى جنوداً للأخبار يبذلون الجهد بالليل والنهار كي يوافوك بالخبر حال وقوعه بالقلم والصورة.. وأنت تجلس «القرفصاء» أو تحتسي كوب شاي أو في مكتبك تضع رجلاً على رجل.. أو تذهب بها في المساء بعد أن تتناول مع الأولاد وجبة الغداء فتريح بها بالك وتتصفحها خبراً خبراً.. الذي يعجبك أو يهمك وتترك الذي أنت راغب فيه ومحرورها هؤلاء الشباب تدرَّبوا بعد أن تأهلوا في الجامعات.. وعرفوا كيف يستوثقون ويحررون من أجلك الأخبار.. ثم أنت تجد فيها بذلك من التنوع الخبري والتسابق الصحفي، من أجل أن يحوزوا على ثقتك ورضائك كي تكون هذه صحيفتك المفضلة. وبعد أن تفرغ من الصفحة الأولى فيها قبل أن تشكر كتيبة الأخبار تتوجَّه بعدها لداخل الصفحات.. فتجد في الصفحة الثانية المزيد مما يطلعك على أخبار الولايات وما يقوله المسؤولون عن كثير منها ما قد يهمك أو يهم الآخرين.. تذكر عزيزي القارئ أن هذه الإصدارة تشتريها فقط بواحد جنيه ثمن كباية شاي ثم إذا شئت بعد ذلك أن تنتقل إلى الصفحة الثالثة وما أدراك ما الثالثة هذه الصفحة يجلس عليها نخبة من كتابنا المتميزين سخروا أقلامهم وكل تجاربهم وإبداعاتهم وفنهم في الكتابة من أجلك.. ينتظرونك بفارق الصبر، يسرون إليك بأدق الأسرار، ويحللون لك ما وراء الأخبار.. حتى تستطيع أن تسبر الأغوار، وتتفهَّم عمق مدلولاتها ومعانيها.. ومنهم من يتصدى لمظالم الناس وللفساد والمفسدين مهما كان قدره وحجمه ولو أدى ذلك إلى أن يدخلهم غياهب السجون أو يعرضهم للكثير من النكد والمضايقات، وقد يجلب عليهم المشقة والمحاربة في الأرزاق.. ثم تجد بجوارهم أيضاً تقارير صحفية قد لا تدري عزيزي القارئ حجم التعب والجهد الذي بُذل فيها لجمع شتات معلوماتها وتوليف أشتات دواعيها وهي مشفوعة برأي الخبراء والمختصين.. كل ذلك خدمة من أجلك عزيزي القارئ.. فإذا أصابك السأم أو غضبت لأي مظلمة ألمت بمظلوم نفثت عنك الصفحة بكاريكاتير ساخر أو ضاحك يفرج عنك الهموم. نذكرك عزيزي القارئ أن كل هذا وأنت في الصحفة الثالثة للصحيفة التي تحوز عليها فقط بقيمة واحد جنيه وهي أقل من قيمة فنجان قهوة يبلغ سعره «جنيهان»، وقد تقرأ كل ذلك عزيزي القارئ وأنت بالمواصلات وتقصر عليك عناء المسافات.. ثم تنتقل عزيزي القارئ للصفحة الخامسة فتجد حواراً مع شخصية مهمة أو تنتقل للسادسة والسابعة فتجد هناك كبار الكتاب والمفكرين بتجاربهم وخبراتهم وآرائهم.. وقد تتصفح آراء بعض أو جلّهم فتمرّ عليه حسب الرغبة والمزاج، أما إن كنت من رواد الثقافة فستجد لها صفحاتها وكذلك الفن وأخباره أو ربما استفدت من صفحات المنوعات وأكيد ستعرف ما يدور في المحاكم وما استجد من الجرائم.. وبعد كل هذا تسلي نفسك إن كنت من عشاق المفاكهات لتروق بها البال وتنسيك الهموم وتزيح عنك الأثقال. نذكرك عزيزنا القارئ أن كل ذلك فقط بواحد جنيه علماً أنك قد تكون فطرت بطلب واحد فول سعره هذه الأيام ثلاثة جنيهات قبل ارتفاع الأسعار وهو ما يعادل ثمن ثلاث صحف على أية حال. وعلى ذات الشاكلة والمنوال تجد نفسك عزيزنا القارئ متنقلاً عبر حدائق هذه الصفحة وقد تلفت نظرك صفحة الرياضة.. إذًا فعليك أن تعلم أن فيها كادراً من المؤهلين يتابعون بالكاميرا إستاداتها وملاعبها وأبطالها يرصدون أخبارها ويقدمون لك كل ما فيها. لا تنسى عزيزنا القارئ أن ذلك كله أقل من قيمة طلب «واحد عصيدة بملاح ويكاب أو تقلية أو روب» تلتهمه من إحدى الخالات قيمتها هو مبلغ ثلاثة ونصف من الجنيهات أي ما يساوي أكثر من ثلاث إصدارات من الصحيفة التي بين يديك. وأخيراً عزيزناً القارئ فإنك تختتم بالصفحة الأخيرة التي في غالب الأحيان تقرأها بعد الأولى بسهولة الاطلاع عليها أو؛ لأنك تعرف أن في هذه الصفحة كبار الكُتَّاب الذين يتدافع القراء ويحرصون على قراءة أعمدتهم التي فيها ما فيها من المثير من المنازلات الصحفية والمبارزات الفكرية والسياسية والأفكار والآراء التي تحرِّك الساحة السياسية. نذكرك عزيزنا القارئ أن كل ذلك بأقل من قيمة طلب واحد شية إن كنت من هواة الشيات الذي هو سعره اليوم يساوي سبع إصدارات. ويختتم الأديب الكبير «المازني» مقدِّمته لكتابه «حصاد الهشيم» بأسلوب طريف رأينا هنا في الختام أن نورد «نص» ختامه لمقدمة الكتاب حتى نترك للقارئ الفرصة كي يتخيَّل كيف على نسقه سيختتم افتتاحية الصحيفة، يقول المازني في حصاد الهشيم «نهاية المقدمة»: إنك تشتري بهذه القروش العشرة كتاباً.. هبه لا يعمر من رأسك شيئاً، ولا يصقل لك نفساً، أو يفتح عيناً، فهو على الأقل يصلح أن تقطع به الفراغ، أو تزين به مكتبك.. ثم إنك قد لا تهضم أكله مثلاً فيضيق صدرك ويسوء خلقك فستلقي أمامك هذا الكتاب، فالعن صاحبه وناشره ما شئت فإني أعرف كيف أحوِّل لعنتك إلى من هو أحق بها، ثم أنت بعد ذلك تستطيع أن تبيعه «فتُنكِب» به غيرك أفكثير كل هذا بعشرة قروش؟!.