أفريقيا تلك القارة التي تملك من الموارد المائية ما لا تملكه قارة أخرى، تجوع شعوبها إلى درجة الموت إن لم تأتها المعونات من خارجها، معونات لا تمنع وقوع كارثة أخرى، إنما تمهد لوقوع ما هو أشد وأنكي. إذا حسبنا الهطولات المطرية في منطقة البحيرات والهضبة الإثيوبية لو جدناها تعادل 1600 مليار متر مكعب، هذا في منطقة حوض النيل فقط، أما إذا أضفنا حوض نهر الكونغو فإن الذي يضيع من مياه ذلك الحوض في المحيط يعادل ألف مليار متر مكعب! وتقول الدراسات إنه يمكن حصاد ما بين 5% و10% من الهطولات المطرية، أي بحساب بسيط يمكن حصاد ما بين 130 ملياراً و260 ملياراً حسب طبيعة الأرض، هذا بالإضافة إلى 85 ملياراً يحملها نهر النيل كإيراد مستفاد منه، وتتصارع عليه مجموعة دول حوض النيل وبتأثير من الخارج. في عشرينيات القرن الماضي اقترح «هيرست»، وهو مهندس ومستشار لدى الحكومة المصرية في ذلك الوقت، فكرة التخزين القرني (CENTURY STORAGE)، وهي تقوم على فكرة إنشاء خزانات في أدنى النهر في منطقة البحيرات والهضبة الإثيوبية، وقد شمل المشروع قناة جونقلي، وفكرة التخزين القرني تقوم على أساس حصاد المياه الضائعة التي تكوِّن المستنقعات بما يعرضها للتبخر، ونشر الأمراض التي يسببها تراكم هذه المياه، حيث تخزن في البحيرات بما يجعلها في مستوى مرتفع دائماً، ويمهد لإنتاج الطاقة الكهربائية الرخيصة بما يفوق حاجة إفريقيا ويسمح بتصديرها خارج القارة إلى أوروبا!! كما أن هذه الفكرة تزيد وتنظم الإنسياب اليومي لفرعي النيل الأزرق والأبيض، بحيث يجعل من الزراعة أمراً ميسوراً طيلة العام، ويقلل من الحاجة إلى إنشاء خزانات في السودان ومصر حيث درجة التبخر العالية التي تبلغ 40% من كميات المياه المخزنة في الصحراء. الأراضي الخصبة والصالحة للزراعة في حوض النيل يمثل السودان فيها 63% من مساحة الحوض، وتتقاسم بقية الدول 37%، وأكبرها مصر التي تمثل نسبة 13% وإثيوبيا التي تمثل 8%. فهذه النسب تشير إلى أن السودان بالفعل يمثل سلة غذاء لدول الجوار سواء في القرن الإفريقي أو منطقة البحيرات أو غرب إفريقيا. والموقع الجيوبوليتكي للسودان يجعله يطل على كل هذه المناطق التي هي مناطق صراع إقليمي ودولي، وتتداخل القبائل السودانية مع القبائل في كل تلك المناطق، فتجد ذات القبائل في السودان وتشاد وإفريقيا الوسطى وليبيا، ونفس الأمر تجده في منطقة البحيرات والقرن الإفريقي! والأزمات التي تحدث في أي من هذه المناطق تتأثر بها كل دول المنطقة المعنية، كذلك كان السودان الأكثر تأثراً بالأزمات، فدول المناطق الثلاث تحيط به من الشرق والغرب والجنوب، وهو أكثر الدول استقبالاً للاجئين من تلك المناطق الثلاث! وإذا نظرنا إلى الأزمات في تلك المناطق وجدناها أزمات نتجت بسبب الضعف الاقتصادي لتلك البلدان، وحل أزمات تلك المناطق الأكثر صراعا في إفريقيا يتمثل في الحل الاقتصادي لا في الحل العسكري، فملايين اللاجئين من تلك المناطق يقودهم العوز ونقص الغذاء إلى اللجوء وليس الخلاف السياسي. وإذا نظرنا إلى قضية دارفور والدول المتاخمة لها باستثناء ليبيا وجدنا أن المياه هي السبب الرئيس في الأزمة، وقد أهملت قضية المياه في دارفور حتى تطورت من أزمة إلى قضية أمنية، إلى أن أخذت شكلاً سياسياً جعل من الحل أمراً غاية في الصعوبة. أزمة إفريقيا يمثل الماء العامل الأساسي فيها، رغم أن إفريقيا من أغنى قارات العالم بهذه الثروة النادرة والمتجددة في آن، ويتمثل حلُّ هذه الأزمة في إدارة هذه المياه بصورة علمية، وبالطبع ليس بما يقترح الآخرون من خارج إفريقيا فيوجهونها إلى كيف تستفيد من مياهها!! وما يقترحه الآخرون إنما يخلق الشقة بين الدول أكثر مما يجمعها، وهذا لن يؤدي إلا لما يعرف الآن بمصطلح حرب المياه. وتستطيع الدول الإفريقية درء مخاطر المجاعات حتى قبل وقوعها والتخلص من ويلاتها، وذلك بإنشاء مشاريع الطاقة المائية لتستخدم في الزراعة والصناعة والنقل. كيف يتم هذا؟ سؤال يمكن الإجابة عليه ببساطة، وذلك باستغلال كل الطاقات المتاحة وأولها المياه التي هي أساس الحياة، فالطاقة المستخدمة من المنبع في البحيرات والهضبة الإثيوبية تمثل عنصراً أساسياً لتنمية إفريقيا، والأراضي الخصبة خاصة في السودان التي تشكل 63% من مساحة حوض النيل وهي بالتقدير المتواضع تقدر ب300 مليون فدان، قابلة للزيادة ب200 مليون أخرى. فكم من ملايين الأطنان من المواد الغذائية يمكن أن تنتج سنويا؟ وكم يبلغ استهلاك الدول الإفريقية؟ لو تضافرت الجهود الإفريقية ولو توفرت لها الإرادة لما جاع شعب من شعوبها، ولما انتظر المعونات والإغاثات التي من أقل فواتيرها الارتهان للآخرين!! وتشكل قضية النقل في إفريقيا عقبة كبرى لاقتصاديات الدول الإفريقية جنوب الصحراء، وحل هذه القضية أيضا ممكن، فالسودان يحوي شبكة حديدية هي الأطول في إفريقيا، ونهايات هذه الخطوط تقف على مشارف غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي، أي أن دول إفريقيا جنوب الصحراء يمكن أن تتواصل وتنقل صادراتها ووارداتها بأرخص وسائل النقل التي هي السكك الحديدية. ويمكن ربط غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي بشبكة حديدية ذات جدوى اقتصادية لا يختلف فيها اثنان، خاصة أن ست دول تجاور السودان ليس لها منفذ إلى البحر إلا عن طريق السودان. ونقطة مهمة أخرى، وهي أن المحاصيل الزراعية والحبوب التي يمكن زراعتها في السودان هي ذات المحاصيل التي تطلبها البلدان المحيطة بالسودان، وهي ليست غريبة عليها كتلك التي تأتي عبر المعونات ومنظمات الإغاثة التي عادة تدخل فيها التجارب الحديثة وتستخدم فيها الهندسة الجينية التي تسبب أضراراً صحية خطيرة. كما أن استغلال الأراضي الزراعية في السودان يوفر الأيدي العاملة ويقلص من البطالة في تلك الدول، وتتحول موجات اللجوء إلى موجات أيدٍ عاملة ومنتجة، وتقلل كثيراً من موجات الهجرة إلى أوروبا التي تضيع فيها مئات الآلاف من الأرواح ويعامل من نجا من المهاجرين معاملة لا تليق ببشر! وهل كان الصومال سيتعرض للجوع لو كانت مجموعة الدول الإفريقية تنتهج سياسة اقتصادية تخدم شعوبها وتقيهم شر العوز والمسألة؟ لماذا لا تحدث مثل هذه المجاعات والأزمات في أوروبا؟ لأن أوروبا تعيش تكاملاً اقتصادياً، ولو تركت المجموعة الأوروبية أو الاتحاد الأوروبي كل بلد لشأنه لتمزقت أوروبا شرَّ ممزق ولقامت الحروب فيها، وكما نرى اليوم فإن أزمة اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا شأن أوروبي كما هو شأن يوناني أو إسباني وبنفس القدر والأهمية. لقد أخطأنا نحن الأفارقة تجاه الصومال وتركناه يتمزق، والآن نواصل الخطأ ونظل صامتين ونحن نرى أهله يحصدهم الجوع بأكثر مما حصدتهم الحروب، في حين أن الحلول الاقتصادية في أيدينا نحن أهل إفريقيا لا في يد غيرنا الذين لا يودون لنا مصيراً خيراً من مصير أهل الصومال. يجب علينا تخطي أزماتنا بإمكانياتنا وإرادتنا وعزمنا، وإلاّ فإن أية مجاعة جديدة تظهر في بلد إفريقي لن تكون سوى وصمة عار جديدة تشوِّه وجه القارة البكر!