كنا وما زلنا وسنظل نردِّد أننا مع إرساء دعائم السلام العادل وإقامة علاقات حسن جوار آمن مع دولة الجنوبالجديدة الوليدة مع اعتراف كل دولة بخصوصية الدولة الأخرى وسيادتها الوطنية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. وإن الجنوبيين قد اختاروا بمحض رغبتهم وإرادتهم الحرة الانفصال وإقامة دولتهم القائمة بذاتها وكنا نأمل أن تضع الحرب بين الطرفين أوزارها. وفي الماضي كانت المشكلة تُعرف بمشكلة الجنوب ولكن بعض الشماليين أدركوا أنهم بلا سند جماهيري يمكنهم من الفوز والحصول على شيء يُذكر في أي انتخابات برلمانية «سم اسم البرلمان ما شئت جمعية تأسيسية أو مجلس وطني أو...إلخ» وتبعاً لذلك فإن انعدام تمثيلهم أو ضآلته في أحسن الفروض لن يمكنهم مثلاً عند إعداد الدستور وإجازته فرض رؤاهم ولن يكون لهم تأثير في كافة القضايا المطروحة اقتصادية كانت أو أمنية أو غيرها، ولذلك آثروا أن يحتموا بالحركة الشعبية والبندقية الجنوبية ليفرضوا عن طريقها رؤاهم قهراً وقسراً ويكون صوتهم هو الأعلى والأكثر ضجيجاً، وأثبتت الفترة الانتقالية الممتدة بين عامي 2005 2011م أن الجنوبيين داخل الحركة الشعبية كانوا يستغلون الشماليين المنخرطين معهم في حركتهم أو المتحالفين معهم من القوى السياسية الأخرى وأداروا لهم ظهورهم بعد ذلك بدليل أن الدستوريين الجنوبيين وعلى رأسهم سلفا كير النائب الأول لرئيس الجمهورية يومئذ ركزوا كلهم جهودهم على الجنوب ولم يولوا الشمال مثقال ذرة من اهتمامهم وكان بالنسبة لهم نسياً منسياً وأرادوا أيضاً بعد إعلان الانفصال استغلال بعض أولئك الذين كانوا منخرطين معهم في حركتهم والمتحالفين معهم واتخذوهم أداة للضغط على الشمال للظفر بأكبر قدر من المكاسب في القضايا العالقة المتصلة بالنفط والملفات الأمنية والحدود وهم لا يعترفون بحدود عام 1956م المتفق عليها ويريدون التوغل شمالاً لاسيما في المناطق الغنية بالنفط أو المعادن. وبعد إعلان الانفصال فإن الشيء الطبيعي والتلقائي أن تسقط الجنسية عن الشماليين المقيمين بالجنوب وعن الجنوبيين المقيمين بالشمال ويصبح كل منهم أجنبياً في الوطن الآخر ولكن هذا يقتضي إعطاء مهلة وفترة انتقالية محدودة الأمد ليوفق كل فرد وكل أسرة هنا أو هناك أوضاعهم وقد مُنحوا هذه الفترة التي انتهت قبل أيام ورأت الأجهزة المختصة لأسباب تقديرية مد الفترة لشهر آخر، أما الجنسية المزدوجة فهي لا تُمنح بصورة جماعية ولكنها تُمنح في كل أنحاء الدنيا بطريقة فردية إذا اقتنعت الجهات المختصة بذلك وفي هذا الإطار وبطريقة انتقائية أعلنت حكومة الجنوب أنها ستمنح خمسمائة شمالي الجنسية الجنوبية المزدوجة وربما تريد مكافأة الذين كانوا منتسبين للحركة الشعبية وهذا أمر يخصها ويخصهم ولكن الغريب العجيب أن بعض هؤلاء الشماليين كانوا ملكيين أكثر من الملك وعند ظهور نتيجة الاستفتاء وقبل إعلان الدولة الجديدة رسمياً نادوا بإلحاح بضرورة منح كافة الجنوبيين المقيمين في الشمال الجنسية المزدوجة وفي هذا انتهازية إذ أنهم يريدون زيادة قاعدتهم السياسية في الشمال بهؤلاء الجنوبيين وإن حركات التمرد الجنوبية السابقة كان يتبعها لجوء الجنوبيين بأعداد كبيرة لدول وسط وشرق إفريقيا ولكنهم في حركة التمرد الأخيرة اتجهوا لعاصمة البلاد ومدنها وقراها المختلفة وعاش الملايين منهم في الشمال واقتسم معهم الشماليون بطيب نفس وخاطر لقمة الخبز وجرعة الماء والمقعد في المركبات العامة وكافة الخدمات الصحية والتعليمية ومارسوا حياتهم الاجتماعية في حرية تامة وحدثت من بعضهم تفلتات كثيرة وأخطاء تم تجاوزها وكان في وجودهم فرصة للمنظمات الإسلامية لتعمل على أسلمتهم وهذا حق مشروع ولكن الملاحظ أن الكنائس كانت هي الأنشط بإمكاناتها المالية الأكبر ولم يعانِ الجنوبيون من أي اضطهاد ديني أو عرقي طيلة فترة وجودهم في الشمال وكانوا يتحركون بحرية كاملة وفي النهاية لم يجد الشمال إلا الأذى والهجوم والمناوشات «وجزاء المعروف عشرة كفوف» وهم يجدون سند القوى الأجنبية ويريدون أن يسيِّروا الشمال وفق هواهم حتى بعد الانفصال وقد كثرت اعتداءات الدولة الوليدة الجديدة على الدولة الأم وكثر أذاها والهجوم على هجليج خير دليل وشاهد، وظل الجنوب يهاجم والشمال يدافع ولن يفل الحديدَ إلا الحديدُ ولا نريد حرباً جديدة لأنها إذا بدأت فإنها لن تقف ولكن التحرشات الجنوبية لن يوقفها إلا الردع الصارم ورد الصاع صاعين لأنهم تمادوا وسدروا في غيهم كثيراً، والمؤسف أن المتمردين الشماليين يمثلون رأس الحية وأُس الفتنة، وبعد الانفصال أراد بعضهم أن يكونوا امتداداً لدولة وحكومة الجنوب وورثة لهم هنا وأخذوا يتحدثون عن الجنوب الجديد مهددين بأن لهم جيشاً وسلاحاً مع ادعاء أن لهم خلايا نائمة وسعوا لأن يعقد معهم النظام الحاكم اتفاقية جديدة مماثلة لاتفاقية نيفاشا يقتسمون بموجبها السلطة مع الحزب الحاكم بنسب يتم الاتفاق عليها وأرادوا أن يتعملقوا بلا وجه حق ولم يتعاملوا وفق أحجامهم الطبيعية بالسعي للتدرج من القاعدة بإقامة تنظيم كسائر التنظيمات مع تعهدهم بوضع السلاح، وتم وضع الاتفاق الإطاري الذي قوبل بالرفض والاستهجان ولذلك لجأوا لتأجيج الفتن في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان بدوافع انتقامية وقاموا بعمليات تنسيق مع الحركات الدارفورية المتمردة وبعض القوى السياسية المعارضة وأعلنوا ما سمّوه تجمع كاودا وأعلنوا بعد ذلك قيام الجبهة الثورية أي أنهم أصبحوا رأس الحية في الفتنة بين الشمال والجنوب. ولا ينكر أحد أن من أهم دوافع الاقتتال الذي يدور هو إسقاط الحكومة الاتحادية ويدعون لانتفاضة شعبية عشوائية وكل همهم إسقاط النظام ولا يهمهم أن تقع البلاد في فوضى عارمة وهاوية سحيقة ليس لها قرار، ولا مناص من الاحتكام لصناديق الاقتراع فهي الحل لمعضل الصراع حول السلطة ويأمل الجميع في إجراء انتخابات حرة نزيهة لا تتدخل فيها أجهزة الدولة ولا تستغل الحكومة وحزبها سلطاتها ومؤثراتها، وعلى المعارضة أن تستعد منذ الآن وعليها العمل القاعدي بخوض انتخابات مجالس الوحدات الإدارية والمجالس التشريعية في المحليات «المحافظات» وقد آن أوان حلها لأنها أمضت حوالى عقد من الزمان دون أن يتم تبديلها وإعادة انتخابها. وإن الدفاع عن الأرض والعرض وإيقاف اعتداءات حكومة الجنوب عند حدها فرض عين، وعلى النظام الحاكم أن يسعى لإصلاح الاعوجاج داخله باجتثاث الفساد والارتباط بقضايا الجماهير وقد أعلن المجلس الوطني في آخر جلسة عقدها التعبئة وهذا عمل طيب ولكن إن أول عمل باهر ننتظر أن يقوم به المجلس هو فتح ملفات مخصصات الدستوريين التي رفض بكل أسف مناقشتها في الدورة السابقة ليكون هذا بداية لعملية الإصلاح وتصحيح المسيرة بكلياتها وجزئياتها.