الحياة تتبدل من جيل إلى جيل وتتبدل تبعًا لذلك كثير من المفاهيم والاتجاهات ووسائل التعامل مع الحياة، تبدو المسألة وكأنها نتيجة للفوارق بين الأجيال وصعوبة التلاقي والتواصل بينهما، ويظن البعض أن القيم والثوابت تتغير أيضًا وليس الأمر كذلك لأن القيم الإنسانية ثابتة والثوابت لا تتغير ولكن البشر هم الذين يتغيرون ويتطورون إزاء هذه الثوابت والقيم التي تتباين المفاهيم نحوها وتتطور الأفكار من حولها وتتجدد الوسائل والآليات التي يتعاملون بها. ولعل النظرة الاستشرافية المستقبلية لسيدنا عمر رضي الله عنه هي التي جعلته يقول للآباء «ربوا أولادكم لزمان غير زمانكم» وهذه مشكلة المشكلات حيث يحرص الكثير من الآباء أن يجعلوا أولادهم نسخًا مكررة منهم وصورة لما ينقصهم أو كانوا يتمنونه في حياتهم، وهذا هو المستحيل في أغلب الأحوال. إذا نظرنا لجيلنا، جيل الاربعينيات والخمسينيات وجدناه جيلاً محدود الفرص حياته بسيطة ووسائله للعلم والمعرفة محدودة وأكبر الوسائل كانت القراءة باعتبارها وسيلة المعرفة الرخيصة والوحيدة وباعتبارها نافذة الجيل إلى عالم الوجود المشاهَد والغائب. لذلك كان ذاك الجيل قارئًا نهمًا للمعرفة متعطشًا للعلم متشوقًا للقراءة، ثم تغيرت السنون وتبدلت الأحوال واتسعت وسائل المعرفة وتطورت أفكار البشر عن الحياة والأحياء وتوالت المستجدات وبرزت أنماط جديدة للثقافة والعلم والتعلم وأصبح بإمكان الجيل الجديد أن يكون أفضل حظًا وأكثر فائدة إذا ما استفاد من هذه الوسائل والمستجدات، ومع ذلك تظل الوسيلة القديمة للثقافة والمعرفة هي القراءة باعتبارها الوسيلة التي لا بديل لها والمعاناة التي لابد منها وبدون القراءة تظل المعرفة ناقصة والزاد قليلاً والعلم مبتورًا ضعيفًا هشًا ،لأن الوسائل الجديدة مهما قدمت وتطورت لا تشفي الغليل ولا تسد النقص ولا تقدم البديل بل إنها كثيرًا ما تعتمد في مادتها العلمية على ما تأخذه من الكتب القديمة والحديثة وما كتب أصلاً ليقرأ لا ليسمع أو يشاهد، لأن الذي يسمع المعلومة أو المعرفة يستعمل حاسة واحدة والذي يشاهد ويسمع يستعمل حاستين، أما الذي يسمع ويشاهد ويقرأ في آن واحد فقد استعمل ملكاته كلها وهي ملكات السمع والبصر والفؤاد، وبالتالي فإن المعرفة التي تكتسب عن طريق القراءة تثبت في الحواس وتتجذر في الفؤاد وتستقر في الشعور واللاشعور. مشكلة الأجيال الجديدة أن لانسب بينها وبين هذه الوسيلة التي لا غنى عنها للمرء في عالم اليوم والتي بدونها لن تستقيم الحياة ولن يتطور الوجود ولن تتقدم الحضارة ولن يكون للإنسان قيمة مهما أوتي من الجاه والمال وضروريات الحياة وكمالياتها لأن الإنسان قيمة بعقله ووجوده، بفكره وحياته، بعطائه ومعرفته، فإذا فقد هذه القيمة فقد مقومات حياته وسر وجوده مع أنه قد يعيش منعمًا مترفًا بلا متاعب أو مشكلات. أما مشكلة الأجيال القديمة فهي أنها لا تقدم الحلول ولاتناظر وتحاور الأجيال الجديدة لتنقل لها الخبرات والمعلومات سلميًا ومنهجيًا كما أنها لا تعطيها فرصة المشاركة الفاعلة فيصنع مستقبلها وتحديد مسارات حياتها وفق المستجدات والخبرات المنقولة إليها، الأمر الذي يجعل العلاقة بين الجيلين متوترة أحيانًا وقلقة دائمًا، جيل يرفض القديم ويعاديه وجيل لا يعترف بالجديد ولا يحاوره ولا يقدم له تجاربه دون منّ أو أذى حتى يختار منها ما هو صالح لزمانه، مفيد لحياته، نافع لأمته. إن جيلنا هو الذي شهد أيام الاحتلال ومعارك الاستقلال ومارس تجارب سياسية في مراحل الدراسة فصقلته التجارب؛ فكان متعدد الثقافة والمعرفة، متباين الاتجاهات والأفكار، ناضج التجارب والخبرات. هذا الجيل حري بأن يكسر الجفوة المفتعلة بين الأجيال ويقوّي حبال التواصل ويدير حوارات مفيدة ويطرح قضايا الجيل الجديد في ساحات الحوار دون أحكام مسبقة أو إملاءات جاهزة بعد الاتفاق على أرضية مشتركة وثوابت لا تنازُع فيها. الأجيال الجديدة شئنا أم أبينا هي نتاج جيلنا ومن سبقنا فعلينا أن نتعامل معها باعتبارها ثمرة عطائنا، ونتا ج فكرنا، وأملنا في مستقبل يسعد فيه الإنسان وينتفي فيه الظلم، ويزدهر فيه الوجود بالعلم والمعرفة، وتتواصل فيه الأجيال حاملة رسالتها محققة سر وجودها وحياتها. إننا نعترف ويجب أن نعترف بأن الأجيال الجديدة أفضل من جيلنا في الإمكانات والقدرات بفضل نتاج العلم والعقل البشري والمعلومة المتاحة كالماء. ان مهمتنا أن نثري ونقوي إمكانات هذا الجيل بتجاربنا وأن نجعلهم أفضل حياة منا وأكثر استفادة من معطيات العلم وكسب الحضارة وثمرات الفكر الإنساني.