لماذا يختلف الناس اختلافًا جذريًا في النظر إلى السياسة؟! ولماذا يخالفون في اتخاذ مواقفهم منها، ومن ممارسيها، ومدرسيها، على السواء؟! الإجابة المبدئية تقول إن السبب كامن في أن البعض ينظر إلى واقع الممارسات السياسية في الحياة، ويستخرج أحكامه التعميمية والتفصيلية منها. هذا بينما ينظر البعض الآخر إلى نظريات السياسة، وغاياتها الكبرى، ويستنبط تصوراته العامة منها. ازدراء السياسة والعمل السياسي هو اكثر نشاط انساني يتسم بالإثارة، ويحتشد بالآثار البعيدة المدى. ولذا يرمقه الناس باهتمام شديد. والمناصب السياسية هي أشد المناصب إغراء. ولذا يتنافس الناس فيها باستماتة منقطعة النظير. وفي غمار العمل السياسي تهدر أكثر المثل التي يرعاها الناس ويقدسونها، ولذا ينظر البعض إلى ممارسات العمل السياسي بمنتهى الاحتقار. ودعنا ننظر بدل الإجمال إلى بعض الأمثال، ثم نُخضعها للتحليل الموازن. ولنبدأ بالمتشائمين المتقززين من ممارسات العمل السياسي.وهؤلاء اختلقوا أبشع التعريفات وأشدها استهزاء وسخرية وامتهانًا للسياسة والسياسيين. وسخروا حتى من تصريفات الكلمة اللغوية وتعوذوا منها. ما دخلت في شيء إلا أفسدته، كما شاع من مقولة الإمام الأكبر محمد عبده رضوان الله تعالى عليه. إذ قال: قاتل الله السياسة إنها ما دخلت في شيء الا أفسدته. فإن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو العلم أو الدين فأنا معك من الشاهدين. أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة. ومن كل حرف يلفظ من معنى السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة. ومن كل أرض تذكر فيها السياسة. ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم، أو يجن أو يعقل في السياسة. ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس! حقائق الوهم: ولا ريب أن مما نفر الإمام الحصيف محمد عبده عن العمل السياسي هو حسه الإنساني المرهف. فقد كان، رحمه الله، يحس كما قال في روحه أنفاس القديسين. ولا غرو فملهمه هو سيدنا جمال الدين! ولكن لما خاض محمد عبده معامع السياسة على خطى أستاذه العظيم تأذت روحه السامية، وتمزقت في الصراع الضاري داخل مؤسسة السياسة، التي رآها تتخصص في إنتاج الكراهية، وضخ الحقد، والتغافل عن حاجات الناس الحقيقية التي يطلبون من السياسيين تحقيقها. فالسياسة العملية، كما رآها محمد عبده، هي تلك التي عبّر عنها المؤرخ والصحفي الأمريكي هنري آدمز على أنها: عملية تجاهل الحقائق الموضوعية والسعي لإنتاج حقائق أخرى من قبيل الوهم! ولما كان الإمام الأعظم محمد عبده يحسب عمره الغالي بالثواني، وكل ثانية من عمره الشريف كانت تساوي عمر شخص بالكامل. ولما كان هذا الإمام يتبع منهج «ديكارت» في التحقيق والتدقيق في كل شأن من شؤون الحياة الدنيا وشأن السياسة بالذات. لذلك سحب نفسه بالكلية عن السياسة إلى مجال عملي أجدى منها بكثير كما رآه وهو مجال التعليم. فالتعليم الطيب هو إضافة طيبة إلى روح الإنسان وتنمية لها. هذا بينما رأى الإمام في السياسة عملية استلاب كبرى للذات! غاية السياسة هي إخضاع الناس وفي هذا المنحى كان العلامة السياسي جاك آفيرى يقرر بأن غاية العمل السياسي هي إخضاع الناس. وقال إن ذلك يتم عادة عن طريق الحرب. فالسياسة كما قال القائد السياسي الأسطوري ماوتسي تونج هي: الحرب التي لا تُسفك فيها الدماء. فهي الحرب اللطيفة الناعمة التي تعتمد على الذكاء والدهاء. وكما ذكر أوسكار أميرنجر فإن السياسة هي الفن السلوكي اللبق الذي يقوم على جلب أصوات المواطنين الفقراء، وجلب التمويل للحملات الانتخابية من المواطنين الأغنياء، مع وعد الفقراء بحمايتهم من الأغنياء، ووعد الأغنياء بحمايتهم من الفقراء، واستقطاب كل طرف منهم وتأليبه ضد الآخر! طموحات القوة: وهكذا عزفت تطهرية الإمام محمد عبده عن الانغماس في المحيط السياسي، لأنه كما رآه محيط تحكمه الطموحات وأقدار القوة، لا قواعد الأخلاق والقانون. وهكذا رأى في تسمية السياسة كما رأى من بعده إيلي غيلبرستون تسمية الدلع لقانون الغاب! أوالتجارة المتوحشة التي يخسر فيها التجار الورعون! كما ذكر اللورد غولدين. أو الفساد الذي يدمغ كل من يتعرض له! كما أفاد جيمس كوبر. أو ساحة صراع المصالح كما رأى وارين جولدبيرج. أو النشاط الذي يتعين فيه على المرء ان يحدد خياره فيه بين شرين اثنين، كل منهما شر من الآخر! كما تصور جون مورلي. أو المهنة التي لايمكن أن تكون فيها صادقًا مع جميع أصدقائك في كل الأحوال! كما قال مايكل باترين. التوتر والانقطاع عن عالم القيم إن الكثيرين من الشانئين على السياسة كانوا يتصورونها صراعًا وتوترًا وانقطاعًا عن عالم الحقائق والقيم. فما لم تكن هنالك حالة طوارئ معلنة، فليس ثمة سياسة، ولا حاجة الى سياسيين. وبما أن السياسة هي التوتر البالغ، فبالتالي لا علاج يُرتجي من هؤلاء الأطباء المتوترين. ويسوء حال هؤلاء الأطباء أكثر وأكثر عندما لا يلتزمون بقسم أبوقراط، فهم ليسوا معالجين إذن وانما تجار غُنم عاجل لا غير!! ثاني أقدم مهن التاريخ وقد كان الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان في أشد لحظات تألقه الفكاهي والخطابي الخلاب عندما ذكر بأنه قد صرح في مرة سابقة بأن السياسة هي ثاني أقدم مهنة في التاريخ! وأضاف قائلاً إنه قد نسي حينها أن يذكر بأن مهنة السياسة تشارك المهنة الأولى أشنع صفاتها وخصائصها!!