حزنتُ أن (قانون رد العدوان ومحاسبة المعتدين على أمن وسلامة السودان) لم تتم إجازته من قِبل البرلمان في جلسة الأربعاء الماضي وحزنتُ أكثر لغياب الوزراء المختصين بالرغم من أنه لا شيء في الدنيا كان ينبغي أن يشغلهم عن حضور مناقشة أهم قانون لحماية الوطن يتم التداول حوله خلال السنوات الأخيرة وهل ينشغل السودان اليوم بأكثر من تأمينه من المتربصين في الداخل والخارج وهل ما نعانيه اليوم من اضطراب سياسي وأمني وعدوان على سيادة الوطن إلا نتاج لضعف هِمّتنا وإهمالنا وغفلتنا وانبطاحنا وتساهلنا مع من يستحقّون الزجر والردع من الخَوَنَة والمارقين؟! سألتُ نقيب المحامين د. عبد الرحمن الخليفة والقانوني الضليع هاشم أبوبكر الجعلي المحامي وغيرهما قبل أكثر من سنتين عمّا يمكن أن نردع به عرمان وأمثاله من المتآمرين على وطننا مع الأعداء وما إذا كان هناك قانون للخيانة العظمى أو قل الخيانة للوطن فقالوا إن القانون الجنائي السابق كان يدين هذه الأفعال أما اليوم فلا.. بعدها ظللتُ أتحدث مع وزير العدل وغيره من أهل القانون لاستدراك الأمر وكتبتُ عن ذلك مراراً ولكن لا حياة لمن تنادي. أخيرًا عُرض مشروع القانون المذكور تحت ضغط عدوان هجليج فشهدنا جلسة أشبه ما تكون بجدل أهل بيزنطة أو بني إسرائيل حول البقرة التي حدَّثهم عنها نبيُّهم موسى.. جدل سفسطائي وسلخ لجلد النملة وحديث عن دم البعوض بينما الحسين مُجندل في كربلاء وهجليج تحترق والأوباش يغدرون بتلودي والعدو يتربص والخلايا النائمة تعمل والمخذِّلون في صحافة الغفلة يعرضون (بره الدائرة) أو يكتبون ما يفتُّ في عضد المرابطين في ميادين القتال. لا أدعو إلى (كلفتة) القانون لكني أدعو إلى التوجُّه إلى المشكلة مباشرة بدون أن تُخلَط مع قضايا أخرى قديمة أو جديدة فمن تطرقوا إلى قضية حلايب جانبهم التوفيق وأظن أنهم قصدوا أن يضعوا عصا غليظة في عجلة المشروع حتى يعطِّلوه ولذلك ينبغي أن يُقصَر الأمر على العلاقة العدائية مع جنوب السودان تحت حكم الحركة الشعبية دون التعرُّض للخلافات الحدودية أو بعض القضايا القديمة مثل حلايب (مصر) وأراضي الفشقة مع إثيوبيا ذلك أن علاقتنا مع الدولتين طبيعية بينما هناك عدوان مسلح من دولة جنوب السودان وعداء سافر مع الحركة التي تتبنى مشروعاً احتلالياً توسعياً حمل اسمُها ما يرمز إليه (تحرير السودان) هذا فضلاً عن أن الحركة تحتضن حركات متمردة ضد السودان بل إنها اعترفت باحتلالها هجليج فهل توجد مقارنة بينها وبين مصر وإثيوبيا؟! أقول لممثل المؤتمر الشعبي والله إن صمتك أوجب من حديثك خاصة وأن موقف حزبكم المخزي في هجليج وقبلها في غزو أمدرمان ينبغي أن يحرمك من عضوية البرلمان ويحاسبك من خلال ذات القانون الذي تتم مناقشته هذه الأيام وهل جاء القانون إلا لتجريم المتواطئين مع العدو والمحرِّضين على التمرد؟! لو لم يعالج مشروع القانون غير وضع منهجية للتفاوض لكفاه. فقد ابتُلينا بتوكيل الأمر إلى غير أهله حين تم تنصيب من سمّاهم الأخ مهدي بابو نمر بعصافير الخريف مفاوضين دائمين وخالدين مخلدين الأمر الذي أوشك أن يقضي على بلادنا ويوردها موارد الهلاك جرّاء انخذالهم وانبطاحهم الذي جعلهم ينساقون وراء الشيطان الرجيم باقان أموم كالشياه الجائعة فيتيحون الخوازيق الأربعة للمغول الجدد لاحتلال الخرطوم ويسلمون عنق الرئيس البشير لسلفا كير في زيارة جوبا. لقد قصَّرنا طويلا وكثيرًا في حق وطننا وظللنا نتنازل ونتراجع منذ أن بدأت مرحلة التفاوض في نيفاشا مروراً بالفترة الانتقالية وأسهم البرلمان في هذه التنازلات والتراجعات من خلال التنازل عن حقه في إبرام الاتفاقيات ثم من خلال تمرير تنازلات الحكومة وانبطاحها في تنفيذ اتفاقية نيفاشا بما في ذلك انسحاب القوات المسلحة من جنوب السودان بدون أن يتزامن ذلك مع انسحاب الجيش الشعبي الذي ظلّ مرابطاً داخل أراضي السودان الأمر الذي نتج عنه ما حدث بعد ذلك في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. إن أكثر ما أسعدني أن يتولى د. كمال عبيد رئاسة لجنة الأمن والدفاع في البرلمان ووالله إنه لدور أعظم بكثير من وظيفته السابقة كوزير للإعلام فالرجل يفهم تماماً، من خلال رصدنا لأحاديثه، ما تنطوي عليه الحركة من إستراتيجيات عدوانية احتلالية وهو أول من تحدث في الحكومة عن مشروع السودان الجديد حين كنا نحن في منبر السلام العادل الوحيدين الذين نرغي ونزبد ونحذر وننذر من الأهداف الإستراتيجية للحركة الشعبية. من العجب العجاب أن عضوية المؤتمر الوطني داخل البرلمان كانت تحمل رؤى مختلفة فالأستاذة بدرية سليمان تتبنّى رأياً وسامية أحمد محمد تتبنّى رأياً آخر وكمال عبيد رأياً ثالثاً ولستُ أدري لماذا لا يتبنّى المؤتمر الوطني رأياً موحَّداً حول القضية ثم أما كان من الممكن أن يُعرض مشروع القانون على الهيئة البرلمانية أو المكتب القيادي حتى لا يحدث التشاكس حول الأمر؟! طرق الحديد وهو ساخن مهم للغاية في هذه المرحلة وينبغي أن تتضافر الجهود جميعاً لسد الثغرات فما أعقب هجليج من يقظة وطنية ينبغي أن لا يضيع هدراً وذلك يحتم تحركًا في جميع الاتجاهات لتحقيق أكبر كسب ممكن وأذكر أننا كنا في التلفزيون نوظِّف أحداثًا صغيرة في ابتداع برامج للتفاعل الاجتماعي ومن ذلك مثلاً برنامج (نداء التلفزيون) الذي تكرر أكثر من مرة لدعم منكوبي السيول والفيضانات أو «مشروع كساء العائدين» من حركة التمرد الذي أجهضه كاربينو بعودته للتمرد و(مشروع الدعاء والتضرع) الذي تكرر مراراً واليوم، والتعبئة على أشدها، كان ينبغي للفضائيات مجتمعة أن تتبنّى مشروعاً للكرامة مصاحباً لذلك الذي يرعاه النائب الأول. إن الروح الجديدة التي تنبعث الآن في السودان مع هجليج أكدت أن هذا الشعب يحمل من الصفات والقيم ما يؤهله لأن يحتل مكانه اللائق به في هذا العالم خاصة وأنه أصبح أكثر تجانساً بعد أن حُدِّدت هُويته وأدار ظهره للجنوب الذي خرج بمحض إرادته من الوحدة المصطنَعة والمفروضة بالإكراه رغم أنف الشعبين المتباغضين وظهر على حقيقته (حقيقة الملك العريان) كدولة تشنُّ الحرب على ما يُفترض أنه شقيقها الأكبر ولعلَّ ذلك من أهم الدروس التي أفرزتها ملحمة هجليج. لقد اكتشف شعب السودان الحقيقة المُرة التي ظللنا نصدع بها ونصرخ مذكِّرين بمسيرة الدماء والدموع التي صاحبت تلك الوحدة البغيضة المفروضة من قِبل مستعمِر لئيم أراد أن يعطل مسيرتنا من خلال حشرنا في ذلك النفق المظلم المليء بالثعابين السامة.. نفق الوحدة بين الزيت والنار والليل والنهار والقط والفار. أقول في الختام: أيُّها البرلمانيّون عجِّلوا بإجازة هذا القانون يرحمُكم الله.