باحث شرعي في مجمع الفقه الإسلامي في سنة ثمان وتسعين ومائة من الهجرة المباركة، سافر الإمام أحمد بن حنبل من بغداد إلى صنعاء للقاء عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وكان أبو زكريا يحيى بن معين، رفيقًا له في تلك الرحلة المضنية، وقد طلب إليهما أحمد بن منصور بن سيار الرمادي أن يصحبهما، ليقوم بخدمتهما في الطريق، فأذنا له، وكان الرمادي وقت ذاك شابًا لم يتجاوز السابعة عشرة، فأظهر سروره بخدمة الشيخين، وأضمر حب العلم، والمزاحمة بالركب في الطلب. وسار الركب الميمون إلى صنعاء، يرفعهم نجد، ويحطهم وهد، فإن وجدوا شجرة حطوا فيها الرحال، واتقوا بها لفح الهجير كانت عندهم أفره من إيوان كسرى، وأورف من جنان الروم، فكتب أحمد عن عبد الرزاق ما يزيد على الألف حديث أو تنقص قليلاً، وكان حظ أحمد أكبر من حظ رفيقيه في الكتابة عن حافظ اليمن. فلما نهلوا من الخضم الرقراق الصنعاني عبد الرزاق، عادوا من صنعاء عبر وادي تهامة، ثم أنجدوا عبر صحراء النِّباج مشَرِّقين، فكانت عودتهم عن طريق الكوفة حيث يرسو أحد جبال الحفظ؛ أبو نعيم الفضل بن دُكَين الملائي الأحول. وكان يحيى بن معين من أهل المُلحة والذكاء، فأراد أن يختبر أبا نعيم في حفظه، فاستشار أحمد، فلم يرض أحمد الاختبار لثقته في حفظ أبي نعيم وتثبته، ولكن يحيى أصر على ذلك، فكتب ثلاثين حديثا مما سمعه وكتبه في مجالس أبي نعيم، وقسمها إلى ثلاثة أجزاء، وجعل في آخر كل عشرة منها حديثا ليس من حديث أبي نعيم، وحضر الثلاثة لزيارة أبي نعيم، فاستأذنوه، فخرج إليهم، وجلس على دُكَّان طين له بحذاء بابه، وأجلس أحمد عن يمينه، ويحيى عن يساره، وجلس أحمد بن منصور الرمادي بين يديه أسفل الدُّكَّان، متأدبا مع شيوخه، فطلب يحيى من أبي نعيم أن يذاكره فيما كتبه عنه، فأذن له، فقرأ يحيى الأحاديث العشرة الأُوَل، وكان أبو نعيم ساكتا، فلما قرأ يحيى الحادي عشر أنكره على الفور، وقال: ليس من حديثي، اضرب عليه! وهكذا كان الأمر في العشرة الأحاديث الثانية، والحادي عشر الذي تلاها، فلما انتهت العشرة الأحاديث الأخيرة والحادي عشر الذي بعدها أدرك أبو نعيم أنه مختبر في حفظه لحديث المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، قال أحمد بن منصور الرمادي: فتغير أبو نعيم وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى بن معين، فقال له: أما هذا وذراع أحمد بن حنبل بيده فأورع من أن يعمل مثل هذا، وأما هذا يريدني فأقل من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل، ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين، فرمى به من الدُّكَّان، وقام فدخل داره، فقال أحمد ليحيى: ألم أمنعك من الرجل، وأقل لك إنه ثبت؟ قال يحيى: والله لرفسته لي أحب إلي من سفرتي. وإن تعجب أيها القارئ الكريم من حفظ أبي نعيم فما عليك إن ذهلت من حفظ تلميذه من حرج، فقد ذكر الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال في ترجمة الإمام البخاري؛ أنه قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجلُ فَهِمٌ، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز، والتقصير، وقلة الفهم، ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد آخر، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، ثم انتدب له الثالث، والرابع إلى تمام العشرة، حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، و البخاري لا يزيدهم على: «لا أعرفه»، فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم، فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ و أذعنوا له بالفضل. هذان مثالان لقوة الحفظ، وبوقوفنا على كتب الأقدمين نقف على فن راق انتهجوه في التدوين، وسنجد شواهد كثيرة ما تزيدنا إلا دهشة في حدة الذكاء لدى أولئك القوم، وكذلك مناهجهم العجيبة في النقد والانتقاء، حتى إنها أذهلت أهل الشرق والغرب، فانتدب لها نفر منهم فعكفوا على دراستها، وقد نجحوا في فك بعض رموزها، واستعصى عليهم كثير منها، وقد استفادوا من ذلك القليل، فصدروا لنا بضاعتنا، التي عجزنا عن معرفة منابعها وأصولها، فسطع في سمائنا نجم لويس ماسنيون، ومرجليوث، وبروكلمان، وكثيرون غيرهمو من أعلام المستشرقين، وما هم إلا مقلدين تنكبوا في دهاليز تراثنا، ومع ذلك انبهر بهم قوم من بني جلدتنا، وما علموا أن القوم لم يبتكروا، وإن هي إلا بضاعتنا ردت إلينا، فهل نمتار من أصلها غير التجاري، ونمير أهلنا من المنبع، مما كتبه عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، وأبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، وأبو عمرو ابن الصلاح الشهرزوري، والقاضي عياض بن موسى اليحصبي، وغيرهم من جهابذة علمائنا في فنون الرواية والتدوين؟ نرجو ذلك! وما قوة الذاكرة إلا ثمرة طيبة من ثمار حفظ الجوارح، وكبحها عن الحرام، وهو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوما فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف.