طرقت سنابك خيل السلطان العثماني محمد الفاتح قبل خمسة قرون، أبواب فينّا في النمسا، ووقفت قواته على مشارف الحواضر الأوروبية الغربية بعد أن اجتاح كل أوروبا الشرقية الحالية قبلها ووطأت حوافر الخيل ما بعد الدانوب إلى أرض الجيرمانيين، يخفق لواؤه باسم الإسلام وتركيا العثمانية التي كانت تحت رايات الخلافة الخفاقة، وكان قلب أوربا يومئذ وعقلها خاوياً إلا من قبسات الحضارة الإسلامية التي كانت تشعُّ على الإمبراطوريات التي تحكّمت فيها أسر ملكية فاسدة، وبدايات ما يسمى بعصر التنوير.. تزهر مثل برعم وردة في الربيع.. وبالرغم من أن السلطان العثماني الذي فتح أكثر من نصف أوروبا وقبلها القسطنطينية، وعمره لم يتعدَ السابعة والعشرين من السنوات النضرات، قد عادت جيوشه من تخوم ألمانيا ومن أسوار عاصمة الإمبراطورية النمساوية ولم يتقدّم صوب الإمبراطوريات الأوروبية في مجاهيل ظلامها وظلماتها، إلا أن أحفاده اليوم تدق سنابك خيل من نوع آخر كل الحصون الأوروبية خاصة في ألمانيا، معيدين مجداً ليس بغابر وتاريخاً لا يزال ينبض بالحياة ورغبة ظلت تتقد في نفوس الأتراك لقرون طويلة كأنها تضاء من زيت الأمل والمجد. في ألمانيا يوجد أكثر من ستة ملايين تركي، يمثلون خُمس سكانها، جاءوا عقب اتفاق مشهور عقب الحرب العالمية الثانية لتعمير ألمانيا التي خرجت محطمة مهشمة مهيضة الجناح بعد هزيمة النازية، وضمن مشروع مارشال فرص عمل لعمال غير مهرة من خارج أوروبا الشرقية للعمل في مشروعات إعادة الإعمار والبناء لدولة تنهض ما بعد الحرب، واستقر مئات الألوف من العمال الأتراك في ألمانياالغربية آنئذ، وتبعتهم أسرهم، وتنامى العدد حتى تكون وأنتج الجيل الثالث منهم، وتجنسوا بالجنسية الألمانية واندمجوا في المجتمع وصاروا أكبر أقلية موجودة ليس في ألمانيا وحدها بل أكبر أقلية في كل أوروبا الغربية... الفتح الجديد بعد محاولة السلطان محمد الفاتح، تتدلى ثماره اليانعة الآن بقوة الثأثير للأتراك في الحياة والثقافة والسياسة في ألمانيا، فقد تمددت الثقافة التركية وصار لها حديقة خلفية في عقر الدار الأوروبية، تنضح بكل ألوان وصنوف وتجليات الثقافة التركية وآداب الإسلام الذي هو رسالة تركيا للعالم قديماً والآن، ولم يقتصر هذا التأثير على الشكلي والظاهر كما هو الحال في طغيان المطبخ والطعام التركي وتقاليده على ثقافة الطعام الألمانية، إنما تعداها للمفاهيم السياسية وقوة تأثير الكتلة الانتخابية للوجود التركي في صياغة الحياة السياسية وتحالفاتها في ألمانيا، وتمدد الوجود للبرلمانات ومجالس البلديات والمدن والوظائف الكبيرة في دولاب الدولة، وأجهزة الإعلام وتيارات الرأي العام الغالبة... وصار هناك تلازم ما بين الإسلام والوجود التركي في ألمانيا، ففي كل الجمهورية الفيدرالية ما يزيد عن سبعة آلاف مسجد تشمخ مآذنها في كل المدن الألمانية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وتمتلئ نفوس أي مسلم من العالم الإسلامي بالفخر حين يرى مئذنة على الطراز التركي سامقة تنتصب في قلب أوروبا تناطح السماء التي كانت وحدها محصورة لأبراج الكاتدرائيات والقلاع والأبراج والكنائس التاريخية القديمة. وغزت التقاليد والأزياء التركية ورأس المال والتعبيرات التركية والإسلامية والحرف العربي والمطبوعات الإسلامية وجه الحياة الألمانية التي يمثل الأتراك أحد أهم محركاتها في كل المهن والحرف خاصة تلك اللصيقة بحياة الناس اليومية. صحيح أن الأتراك في ألمانيا هم جزء أصيل من مجتمع الدولة المتنوع المتجانس، لكنهم لم يذوبوا في الثقافة والنظام المهيمن في بلدهم الجديد، حافظوا على كل خصائصهم وخصوصياتهم الثقافية والدينية، وأنشأوا الكثير من المراكز الإسلامية وجمعيات الإغاثة الإسلامية العالمية والمنابر الإعلامية والمحطات الإذاعية والتلفازية التي تقدم الدعم للمسلمين في كل مناطق العالم الإسلامي ومن بينها السودان. هذه التجربة التركية في ألمانيا جديرة بالدراسة كتجربة إنسانية لمجموعات ذات خصوصية ثقافية ودينية هاجرت من وطنها الأم واستقرت في مجتمع مغاير واستطاعت هضم الثقافة الجديدة وتنميطها وتطبيعها وقولبتها في ثقافتها القديمة ولم تذب بالكامل في هويتها الحديثة بل صارت عنصر تفاعل وإضافة لا غنى عنها على الإطلاق..ألا تستحق هذه التجربة النظر بعمق؟!!