البعض يسأل لماذ تنسحب القوات المسلحة من أبيي؟ في البدء أودُّ أن أوضِّح أو أشرح للقارئ الكريم من غير العسكريين بصورة مبسّطة ومختصرة جداً العلاقة بين القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية في المستوى الإستراتيجي من وجهة نظر الفكر الإستراتيجي.. وعندما نشير للقيادة السياسية في الدولة فذلك يشمل كل مؤسسات الدولة التشريعية والسياسية والتنظيمية «النظام الحاكم». ما يبدو للمراقب أن المؤسسة العسكرية بقيادتها مؤسسة مستقلة في قرارها بمنأى عن القيادة السياسية، والصحيح أن المؤسسة العسكرية وقيادتها خاضعة تماماً للقرار السياسي «فيما يتعلق بالأمن القومي» قد لا ينطبق ذلك في حالة الحكم المنفرد بالسلطة كما كان في حالة حكم مايو مثلاً. هذا يقودنا إلى إعطاء فكرة عن ماهية السياسة العسكرية.. فالسياسة العسكرية هي الرؤية السياسية في المستوى الإستراتيجي التي تتعلق بالأمن القومي.. والسياسة العسكرية تضعها القيادة السياسية في أعلى مستويات تنظيمها ويتم تنزيلها للقيادة العسكرية للتنفيذ، لا نستطيع ان نقول إن المؤسسة العسكرية غائبة تماماً في مرحلة وضع السياسة العسكرية ولكنها قد تكون حاضرة تمثيلاً أو مشورة ولا يتعدى رأيها ذلك.. وغالباً ما يكون ذلك التمثيل أو تلك المشورة يقوم بها وزير الدفاع الذي هو عضو في مجلس الأمن القومي في تلك الدولة وغالباً ما يكون من أعضاء التنظيم السياسي في سدة الحكم. والسياسة العسكرية بعد تنزيلها للمؤسسة العسكرية في شكل إستراتيجيات واجبة التنفيذ ما على القيادة العسكرية إلا تفصيلها إلى خطط في المستوى الإستراتيجي والعملياتي وحساب احتياجاتها وطرق تنفيذها لتحقيق سياسة الدولة العسكرية التي أصبحت من مسؤولياتها وواجباتها. قد لا يكون هذا الشرح وافيًا أخي القارئ الكريم أو قد لا يكون في دقة كاملة ولكنه يُعطي الفكرة العامة للعلاقة بين المؤسسة السياسية وأجهزتها الحاكمة وبين المؤسسة العسكرية. والوضع الآن لدينا لا يختلف عن ذلك، فالحكم القائم حكم مدني يديره تنظيم سياسي بمؤسساته في كل المستويات، وما المؤسسة العسكرية إلا جزء من تلك المؤسسات خاصة لسياسة الدولة بصفة عامة وما ينيبها كسياسة عسكرية بصفة خاصة، أما أن يكون القائد العام أو القائد الأعلى رجلاً عسكريًا أصبح رئيسياً للدولة عن طريق الانتخابات فهذا لا يغير في وضع السياسة العسكرية شيئًا، ويبقى الرئيس نفسه وجميع مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية وهذا ما يجري في بلدنا والأمثلة كثيرة يمكن أن نذكر بعضًا منها لمزيد من التوضيح وإزالة اللبس عن فكر القارئ: مثلاً برتكول الترتيبات الأمنية الذي أدى إلى التعقيدات التي تعيشها بلادنا اليوم، فرض على القوات المسلحة الخروج من الجنوب والتنازل عن السيادة الوطنية على ذلك الجزء وأعطى الحركة الشعبية حق البقاء في الشمال، جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان «الفرقتين التاسعة والعاشرة» وفي العاصمة الخرطوم، كان ذلك قرارًا سياسيًا نُزِل للقيادة العسكرية كسياسة عسكرية واجبة التنفيذ.. لا أعتقد أن الفرصة أُتيحت للقيادة العسكرية للإدلاء بدلوها إلا في حدود ضيقة تتعلق بالكم والكيف والنسب والوقت والتاريخ وتجميل إخراج القرار. المثال الآخر نذكره وكانت أحداثه في عهد حكم الرئيس نميري عندما تمردت قوات بور وتجمعت تحت قيادة جون قرنق في منطقة بلفام أصدر الرئيس نميري توجيهات واضحة بتنفيذ عملية عسكرية تشترك فيها القوات الجوية بصفة رئيسة لتوجيه ضربة قوية لقوات التمرد في منطقة تجمُّعها «كان ذلك قرارًا سياديًا يُفترض أن ينزل كسياسة عسكرية للتنفيذ»، قامت القيادة العسكرية بالتحضير التام للعملية ولكن القيادة السياسية التي أصدر الرئيس لها التوجيه تراخت عن القيام بدورها بل ربما وضعت العراقيل في طريق تنفيذ المهمة لأسباب سياسية خارجية تعلمها.. نأتي لموضوع انسحاب القوات المسلحة من أبيي أو قل إعادة انتشار وحدات القوات المسلحة الموجودة بمنطقة أبيي.. واضح تماماً أن القرار بإعادة الانتشار قرار سياسي جاء نتيجة لضغط خارجي كبير، الضغط مرتبط بتهديدات جسام لا أنا ولا أنت نعرفها. والدليل على شدة الضغط الخروج عن مواقف الرئيس المتشددة حيال سحب القوات من أبيي، ومن هنا جاء قرار التنظيم الحاكم الملزم للرئيس بالرغم من تأثير ذلك على شعبية الحزب الحاكم في الشارع السياسي الذي كان مؤيداً تماماً لموقف الرئيس. فهل كان طلب الأممالمتحدة بسحب أو إعادة انتشار القوات المسلحة الموجودة في أبيي أهم وأكبر من موقف الرئيس ومن رغبة الشعب السوداني؟؟ عندما ننظر إلى وجود قوات الحركة الشعبية «الفرقة التاسعة والعاشرة» وهي من صلب تنظيم قوات الحركة الشعبية، عندما نجدها منتشرة في مناطق جنوب النيل الأزرق وفي قلب جبال النوبة وهي مناطق شمالية لا جدال حولها، كيف نفهم انسحاب القوات المسلحة من منطقة أبيي وعدم انسحاب قوات الحركة الشعبية من جنوب كردفان والنيل الأزرق؟؟