إن صلاح الرعية يقوم على صلاح أهل الحكم وأهل العلم.. فإن فسدت الرعية.. وصلح أهل الحكم.. انصلح حال الاثنين.. ثم انصلح حال الجميع. وصلاح أهل الحكم يقوم على صلاح أهل العلم فإن فسد أهل الحكم. وصلح أهل العلم.. انصلح حال الاثنين.. ثم انصلح حال الجميع. وإن فسد أهل العلم انسد باب الإصلاح في وجه الأمة كلها.. ففسد الحكام.. وفسدت الرعية.. ولقد ظل علماء هذه الأمة يقومون على إصلاحها وتقويمها وتسديدها في عصورها الماضية كلها فكانوا عصمة لها من الزلل والخلل. إذا نابها من داخلها نائبة قاموا لها بالبيان.. ووقفوا لها حتى تنجلي.. وإذا جار عليها من خارجها عدو. نفروا في أول النافرين. وقادوا جموع المجاهدين.. وثبّتوا الناس وحرضوا على الجهاد.. وألّبوا على أهل الكفر والعناد.. ولقد ملأت أرتال العلماء صفحات التاريخ وزاحمت مآثرهم مآثر أهل الحكم والسلطان.. بل فاقتها في النصاعة والبراعة والشجاعة.. من هؤلاء ابن جبير.. والأوزاعي.. وابن المبارك وابن ابي ذئب. أما ابن جبير فقصته مع الحجاج معروفة.. وكان قد خرج عليه في جيش ابن الأشعث.. وسجنه الحجاج.. ثم قتله ولقد قال وهو في سجنه كلمات زلزلت الأرض تحت أقدام الجبابرة. سألة سجانه: إن الله يقول «إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين» فهل أُعد أنا من هؤلاء؟ هل أنا من أعوان الظلمة؟ قال سعيد: كلا .. والله لست من أعوان الظلمة!! بل أنت من الظلمة أنفسهم!! إن أعوان الظلمة هم البزاز والحلاق والجزار والطباخ. أما الإمام الأوزاعي أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو نزيل بيروت وقبره فيها حتى اليوم فقد كان نسيج وحده بين العلماء كان كثير المخاطبة والمراسلة لأهل الحكم وأهل السلطان وكانت رسائله وخطاباته تقابل بالتجلة والاحترام.. وكانت كلها في إصلاح الراعي والرعية.. وليس أدل على ذلك من القصة التي أوردها بن ابي حاتم في الجرح والتعديل عن الأوزاعي بعد موته.. فقد زار قبره أحد الولاة.. فوقف عليه وترحم عليه وقال ما معناه يرحمك الله أبا عمرو فقد كنت والله أكثر خشية لك من الذي ولاني.. أي أنه كان أكثر خشية له من أمير المؤمنين نفسه. أما ابن أبي ذئب فقد كان شديداً على الحكام يخشى الله ولا يخشاهم ويرجو ثواب الله ولا يرجو ثوابهم. دعاه المنصور وسأله عن الحسن بن زيد بن الحسن بن فاطمة فقال أين أبي ذئب إنه يتحرى العدل.. فسأله المنصور وما تقول فيّ؟ فقال ابن أبي ذئب: ورب هذا البيت إنك لجائر!! ولقد هلك الناس فلو أعنتهم بما في يديك من الفئ فقال المنصور: ويلك لولا ما سددت من الثغور وبعثت من الجيوش لكنت تؤتى في منزلك وتذبح!! فقال ابن أبي ذئب: فقد سد الثغور وجيّش الجيوش وفتح الفتوح وأعطى الناس أعطياتهم من هو خير منك!! قال المنصور: من هو ذاك؟ فقال: هو عمر بن الخطاب.. فمن لمنصورنا الذي لا يستطيع أن يدل علينا بعشر ما دل به المنصور الأول على الأمة وعلى علمائها؟! ومع كل ذلك فقد قالوا عن ابن أبي ذئب إنه كان من أعبد الناس وكان يقوم الليل ويجتهد في العبادة حتى إنه لو قيل له إن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد اجتهاد. وكان عبدالله بن المبارك إمام أهل خراسان يقول كما يقول عامة العلماء والفقهاء «لا دخول ولا خروج». أي لا يدخلون على الحكام يطلبون رفدهم ولا يخرجون عليهم بالسلاح.. ولما ولي إسماعيل بن عليه الصدقات وكان من أهل الحديث أرسل إلى عبد الله المبارك في طلب رجال من القراء يعينونه على أمره فأرسل إليه ابن لمبارك قائلاً: يا جاعل العلم له بازيا.. يصطاد به أموال المساكين احتلت للدنيا ولذاتها.. بحيلة تذهب بالدين فصرت مجنونا به بعدما.. كنت دواءً للمجانين وكان طاوس من أشد الناس على أهل الحكم والسلاطين وعلى أبنائهم في الموعظة والزجر. جاءه ابن سليمان بن عبد الملك فجلس إلى جواره فلم يلتفت إليه طاوس حتى قام.. فقيل له: جاءك ابن أمير المؤمنين فجلس إلى جوارك فلم تكلمه ولم تلتفت إليه! قال أردت له أن يعلم أن لله عباداً يزهدون عما في أيديهم من الدنيا. اللهم إن لم تجعل لنا مثل سعيد بن جبير ولا مثل الأوزاعي ولا ابن المبارك ولا أبو الحارث بن أبي ذئب ولا مثل طاوس ولا أبي حنيفة ولا غيرهم ولا قريباً منهم.. فليتك قد جعلت لنا مثل سليمان بن عبد الملك وأبي جعفر السفاح.. فقد كانوا والله أبر برعاياهم من حكامنا هؤلاء منا.. وقد والله كانوا أقوم بشرع الله من حكامنا هؤلاء بالشريعة التي جعلوا منها حجة أمام كل ناصح أو واعظ أو مذكر.. يدلون علينا باسمها ويبخلون علينا بمسماها. فلو أن أهل العلم اليوم قاموا جميعاً فقالوا لأهل الحكم: أقيموا شريعة الله فينا ولا تكذبوا علينا فلسنا ممن تخدعه الأباطيل وتلهيه عن الحق الشقشقات. وأنا أقول أصالة عن نفسي ونيابة عن أهل العلم.. ولست منهم.. وليتني كنت منهم.. أنا لا أرى من الشريعة في أرض السودان اليوم شيئاً.. إنها لا تحكم في الأموال ولا في الابضاع ولا يؤمر فينا بمعروف ولا ينهى عن منكر.. بل إن المنكر قائم على قدم وساق والمعروف منخنس مخيس مخذول مرذول أقيموا فينا شرع الله قبل أن يقيم فيكم الجبار عقوبة العصيان. فيطلق فيكم لأهل الشارع العنان.. بل ويطلق القلب واليد واللسان. استعينوا على أمر الحكم بمراقبة الديان.. ولا تعينوا على أهلكم الشيطان وأعوان الشيطان.. يا أهل العلم قولوا لأهل الحكم كلمة يصلح بها الله حالهم وحالكم وحال الأمة. كونوا قوالين للحق قوامين به.. قولوا لهم مثلما قال أبو مسلم الخولاني لمعاوية وهو على المنبر لماذا تحبس عن الناس أعطياتهم وهذا المال ليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك!! فلسوف ينزل معاولة ويقول للناس مكانكم فيذهب ويغتسل عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيصعد المنبر ويقول: صدق أبو مسلم المال ليس مالي ولا مال أبي ولا مال أمي بل هو مال الله فهلمّ إلى أعطياتكم!!