نعطي هذه المساحة اليوم للأخ مهدي عبد الكريم فإلى مقاله.. بدأت نذر الخطر على السودان الشمالي وهويته الحضارية وطرائق العيش فيه تلوح في الأفق منذ تكوين الحركة الشعبية لتحرير السودان في مايو «1983» وأحس المواطن العادي بمغزى التسمية: تحرير السودان ممن؟ ثم سطت الحركة على الكرمك عام «1987» فصدق حدس المواطن العادي بحجم التآمر المدعوم من وراء البحار.. ثم بدأت خلايا الحركة الشعبية في صفوف النازحين من جنوب السودان في الخرطوم جراء الحرب التي تقودها الحركة الشعبية الذين كانوا يحيطون بالعاصمة الخرطوم إحاطة تامة تتصرف إزاء الشماليين وكأنهم هم الغرباء النازحون.. ويذكر من أدركوا تلك الفترة كيف كانت هذه العناصر تستقل المواصلات العامة وترفض في غطرسة وتحدي دفع الأجرة، وتأكل في المطاعم دون سداد المقابل وكيف كانت الشرطة نفسها تتحاشى إنفاذ القوانين إزاءهم، وكيف كانوا يدفعون الشماليين خارج صفوف الرغيف في صلف بل وبوابل من الشتائم، وبأن هذه البلاد هي بلاد السود لذلك سميت السودان وأن العرب غرباء يجب أن يعودوا من حيث أتوا وأن الخرطوم كلمة جنوبية تعنى ملتقى الأنهار.. ثم لم تلبث الخرطوم الآمنة أن أصبحت مدينة مخيفة انفرط فيها عقد النظام بسبب كوادر الحركة الشعبية، وباع بعض الشماليين بيوتهم وممتلكاتهم وهاجروا إلى القاهرة خوفاً من غزوات تلك الحركة.. وتحفظ مضابط المحاكم قضية جنوبي طعن جنوبي آخر بمدية لخلاف نشب بينهما لأي منهما تؤول عمارة في حي العمارات بالخرطوم بعد سقوط الخرطوم على يد الفاتح جون قرنق دمبيور.. وتواصل الكيد العنصري ضد الشمال وثقافته العربية والإسلامية ليضم أبناء دارفور والبجا في الشرق، والنوبيين في أقصى الشمال والنوبة والإنقسنا.. وللأسف مع ذلك كله رأى بعض المثقفين من أبناء الشمال في الحركة الشعبية ملاذاً ومطية للدولة المدنية دولة المواطنة، ولم يرَ في كل هذا التحريض العنصري البغيض فتنة استئصالية أبعد ما تكون عن الديمقراطية وحكم القانون.. وكان الصادق المهدي قد علق على جلالات الجيش الشعبي التي لم تكن تتحدث عن ديمقراطية أو دولة مدنية جامعة جامعة وإنما كانت كنفثات المصدور تنضح حقدًا وتهديداً ل «المندوكرو» وتتوعده بالويل والثبور وعظائم الأمور مثلما كانت تفعل إذاعة الحركة من إثيوبيا منقستو هيلامريم.. وعقب تحرير هجليج وفي مسعى للتعبئة ضد الشمال رأينا كيف خرجت السخائم والكراهية من صدور قيادات في الحركة كانت توصف بالاعتدال، شاهدنا أحدهم على قناة الجنوب الفضائية يتحدث عن زحفهم إلى الخرطوم وهناك قال: «سيتهدم بيت الميرغني وبيت المهدي والشايقية سيقعوا في البحر!» الغفلة والسذاجة السياسية جعلت القيادات الشمالية تتحالف مع قرنق لإسقاط الحكومة دون أن ترى مخاطر ذلك على المدى البعيد على سلامة الوطن وبقائه، وقد ساهمت تلك الأخطاء الشنيعة في ما آل إليه الحال اليوم، وعسى أن يصبح ذلك عظة وعبرة في المستقبل، وفي المقابل أخفقت الحكومة في إشراك المعارضة في مفاوضات السلام، وكان من الحكمة أن تفعل لتتقوى بها في وجه القوى الخارجية التي كانت تدعم الحركة بالأفكار والحيل والتي رأت في إشفاق الحكومة من مآلات أحداث سبتمبر «2001» فرصة للاستفراد بها إضعافًا للشمال وربما ضمنت مشاركة كافة قوى الشمال السياسية الوصول إلى اتفاقية أفضل من التي أبرمت، وأقل مزالقاً وعيوباً، وهكذا يتسبب صراع الكراسي دوماً في حجب الرؤية والقدرة على التمييز بين المرحلي والإستراتيجي فيدفع الوطن الثمن غالياً كما هو واقع الآن. إن منبر السلام العادل جاء تعبيراً تلقائياً عن نبض الجماهير التي ضاقت ذرعاً بالاستعلاء الذي كانت تمارسه الحركة الشعبية على الشمال والتساهل الذي وصل حد الخنوع في بعض المرات من قبل الحكومة استرضاء لها، والناس يذكرون ويتعجبون من باقان أموم وهو وزير لشؤون مجلس الوزراء في الحكومة الاتحادية يصف تلك الحكومة بأنها حكومة فاشلة وفاسدة، ويشاهدون دينق ألور وهو وزير للخارجية يحرض على الشمال من شاشات التلفزيونات الخارجية بل والنائب الأول آنئذ سيلفا كير وهو يكيل السباب للحكومة والشمال في العواصمالغربية، أراد منبر السلام أن ينتصر لكرامة الشمال وثقافة الشمال فانبرى يكشف عورات الرباط الذي لم يكن مقدساً بين الحركة والمؤتمر الوطني فأحيا روح المقاومة وإباء الضيم في أهل الشمال فجن جنون الحركة الشعبية حين رأت التفاف الناس حول المنبر يستبشرون بالانفصال إذ علمت أنه كرتها الوحيد في الابتزاز قد احترق وأقبل الناس على صحيفة المنبر الوليدة التي سرعان ما احتلت الصدارة من حيث التوزيع ولا تزال، وهذا لعمري هو سيد الأدلة على تبرم غالبية الناس بالإذلال الذي كان الجنوب يمارسه على الشمال والله تعالى يقول: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين».. لقد اتضح أن الحركة الشعبية وأصدقاءها في الإقليم وخارج الإقليم كانوا يرمون إلى فرض السودان الجديد لا عربي ولا مسلم بحد السيف وفوهة المدفع، وكانوا يرون في الانفصال اتكاءة وفرصة لالتقاط الأنفاس يجمعون بعدها العرقيات التي أوهموها في دارفور والانقسنا وجبال النوبة أنها «ضريبة دمهم» وأقنعوها بإطراح ما يجمعها مع أهل الشمال من أواصر الدم والدين وأن تعينهم على الانقضاض على الجلابة والاستيلاء على البلد وإقامة السودان العنصري الجديد. لقد أفلح المنبر في بث الوعث اللازم للحفاظ على أرض الأجداد أرض الخلاوي والمسيد والتقابة وقدح الضيفان. وتبقى الكثير من العمل والمسؤولية، نعم لقد تخطى المنبر مرحلة التأسيس بشعاراتها الحماسية التي كانت ضرورية في أوانها وانداحت الآن مرحلة جديدة من الكفاح المدني المتمثل في تنظيم الصفوف واستقطاب الشباب من كل الكيانات السياسية والطائفية والطرق الصوفية في كيان عريض جامع، وهؤلاء جميعاً يعدون من مكونات ثقافة الشمال الإسلامية العربية بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية، إن الحركة الشعبية وبعض مناصريها في الشمال قد أفلحوا جزئياً في دمغ المنبر بالعنصرية وهذا افتراء ينبغي أن يحارب فعلاً لا قولاً إذا قبل المنبر مسؤولية جمع الصف الوطني في الشمال، ورضي لنفسه ألا يكون مجرد ظاهرة عابرة، لا بد من العكوف على الاتفاق على وثيقة تعبر عن رؤية المنبر الإستراتيجية تتضمن الاعتراف بأن السودان بلد متعدد الأعراق، لكن غالبية أهل الشمال من المسلمين متمسكون بثقافتهم وأنهم يد واحدة على من سواهم، وإن نظرة المنبر للأعراق مستمدة من قول الله تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» وقول النبي «ليست العربية من أحدكم بأب ولا أم إنما العربية اللسان فمن تحدث بالعربية فهو عربي».. إن التصدي لفرية العنصرية يبطل خطة الحركة الشعبية في تفتيت الشمال وصوملته ويجمع أبناء الشمال من أقاصي دارفور.. دارفور المحمل.. دارفور القرآن ومن هضاب البحر الأحمر ومن أرض الفونج حيث قامت أول سلطنة إسلامية رسّخت للغة العربية في هذا البلد.. بإخوانهم في الجزيرة وفي سهول كردفان وحلفا ومروي والدامر. إن مواجهة إستراتيجية الحركة العشبية الرامية لاجتياح السودان واستئصال ثقافته الإسلامية والعربية وسحق أهله «الجلابة» يحتاج لإستراتيجية مضادة تبدأ ببث الوعي وتوحيد الكلمة وتبصير الناس بالأخطار التي تحاك ظلماً ضد هذا البلد الكريم.. وإن عجز المنبر عن القيام بهذه المسؤولية منفرداً فليدعو لقيام جبهة عريضة من شباب الأحزاب والكيانات الدينية والمدنية الأخرى تضطلع بهذه المهمة التاريخية. ليس تحريضاً على الجنوب ولا انقضاضاً عليه فالله تعالى يقول «وإن جنحوا للسلم فأجنح لها» والرسول الكريم يقول «لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموه فأثبتوا» وليكن واضحاً أن المنبر لا ينفعل بكراهية ولا استعلاء على مواطني دولة جنوب السودان، وأن معاركه مع برنامج الحركة الشعبية العدواني وأنه متى ما تخلت الحركة عن ذلك البرنامج الخيالي الرامي لضم الشمال بالقوة وإقامة ما تسميه السودان الجديد تنفتح كل الأبواب للسلام ولتعايش سلس بين البلدين.. إن الإستراتيجية المطلوبة إنما هي إستراتيجية تهدف للدفاع والحفاظ على تماسك الشعب في الشمال للتصدي للغزو والحرب إن فرضت عليه والاستهداف التواصل من قوى الشر العالمية. هذا الطرح وإن لم يتحقق حتى على مستوى جبهة عريضة سينال المنبر شرف الدعوة إليه كوثيقة وطنية جامعة تتواثق عليها الأحزاب والكيانات الدينية والمدنية في البلاد.. وبالله التوفيق. المهدي عبد الكريم محمود عبد الكريم المدير الأسبق للمركز الثقافي الاجتماعي السوداني بأبوظبي { من دلالة المصطلح نشكر الأخ الكريم مهدي عبد الكريم على هذا المقال لكن نؤكد أن منبر السلام العادل فعلاً قد فعل هذا التوجه، وذلك حين طرح هذه الرؤية من خلال أهدافه ومبادئه الكلية وهي قضية توحيد جهود أهل القبلة الذي سماه الأخ مهدي الطريق الثالث، وكان عندنا في المنبر هذا الطريق طريقاً أولاً.. واستجابت لنا جهات عديدة وجدت لقاءات ومناقشات أثمرت تواصلاً طيباً وحواراً ثراً مع أكثر من جهة.. وبذلك كان منبر السلام العادل أول تنظيم سياسي سوداني طرح هذه الرؤية بصورة كلية في إطار سعيه نحو الدفاع عن هوية الأمة وصبغتها الحضارية والثقافية.