وقد كان ذلك يوم أن سمعت امرأة تقول لأحد الأشخاص: هوي أنا الجن والطرطشة ما بينفعو معاي... الما عندو كبير يشتري ليهو كبير. صحيح... وكأني أسمع هذا الكلام لأول مرة... الما عندو كبير ليست هذه معضلة فليشتر كبيراً.. المسألة إذاً في غاية البساطة.. لماذا لم تخطر على ذهني من قبل؟ نعم نشتري كبيراً.. ولكن من أين يشتري الناس كبراءهم؟ وما هي مواصفات هذا الكبير؟ لا بد أنهم يأتون في أحجام مختلفة.. فهناك كبير وهناك كبير جداً وهناك كبير جداً.. جداً XXL. بالأمس القريب كان عليَّ أن أصرف شيكاً في فرع بنك في السوق المحلي.. ولدهشتي الكبرى وأنا أتحرك داخل الخرطوم أن اكتشفت أن السوق المحلي يقع في أبعد مكان، وفي أحد أطراف مدينة الخرطوم فكيف يكون ذلك السوق محلياً.. وهو أبعد ما يكون عن المحلية؟ وكيف أنك يمكن أن تكون في مكانين في وقت واحد.... وحتى لو أخذنا بنظرية الاستنساخ كيف يمكن أن يكون الشخص قاتلاً و مقتولاً في آن واحد؟ تلك أشياء «تسغرب» المخ.. فلعل الكبير الذي سأشتريه يقوم بعمية الفهم نيابة عني.. بينما أتفرغ أنا لتحمل مشاق الحياة التي تبدأ منذ الصباح الباكر «البكور» باستعادة أشياء عديدة. إذ أنه يتوجب عليك أن تعيد الكهرباء بعد شحن عداد الدفع المقدم ليشحن الموبايل ذا الدفع المقدم وتعيد المياه وتعيد التلفون وتعيد زوجتك بعد أن تكون قد زعلت وذهبت لبيت والدها المندهش من البلوى التي هبطت عليه وسببت له جلطة ينقل على إثرها لمستشفى خاص.. وأن تعيد الثقة إلى شريكك بأنك لن تتغدى به بعد ضبطته وهو يخطط ليفطر بك. كل هذه الأشياء تحتاج منك إلى تفرغ كامل.. فلا يعقل بعد كل هذا أن يطالبوك بالفهم.. ولهذا فأنت تحتاج لكبير يفكر نيابة عنك. ويبدو أنني لن أعثر على ذلك الكبير أبداً.. فالكبير الذي أبحث عنه هو من نوع انتاجه مكلف.. ولهذا انقرضت تلك الأنواع ذات المواصفات العالية وبقيت أنواع تايوانية أو كورية لا تصمد كثيراً.. نشرة السادسة والنصف صباحاً والتي اعتدت أن أصغي إليها لسماع أخبار الوفيات.. جاء فيها أن السيد حميدة الكلكي قد انتقل إلى جوار ربه وأنه سيدفن في مقابر البكري في ذلك الصباح. وارتديت ملابسي بسرعة وانطلقت إلى المقابر.. جمع غفير من الناس تناثروا في شكل شلل صغيرة تتكون من ثلاثة أو أربعة أشخاص.. وفي وسط ذلك الجمع كان جماعة يحفرون القبر ويصيح أحدهم: وسع عندك هنا محل البطن.. ويعترض آخر: يوسع شنو؟ الحكاية كلها شبر.. ما يقدر يوسع على كيفو ولكن الشخص الآخر يصر على موقفه: حكاية الشبر دي تختلف من زول لزول.. وفي النهاية هي دفن وبس.. في شبر في متر.. ما خلاص.. يا أخي الدنيا قضت غرضها. ولا يبدو على المعترض أي تنازل: لا... الحكاية مش على كيفنا.. الحكاية تعاليم شرع ونحن نعمل حسب ما قال الشرع.. ويرد عليه خصمه: طيب.. أفرض الزول دا كان ضخم جداً.. والشبر ما بشيلو، يعني ندفنوا كيف؟ ويشترك آخرون في النقاش: انتوا هسع بتتغالطوا في شنو؟ يمكن المرحوم دا ما يحتاج لأي زيادة.. وبينما النقاش يستمر على تلك الوتيرة كان جسد حميدة الكلكي مسجى على العنقريب.. ويبدو كبيراً في حجمه.. والله أعلم إن كان ذلك الشبر سيسعه.. وكان هناك رجل يقف على بعد وهو يستمع إلى ذلك النقاش فتحرك ليحسمه قائلاً: يا إخوة.. كل شيء بالاستطاعة.. فإن لم يسعه شبر زدنا له حتى ينزل في قبره.. وهذه مكتوبة له منذ الأزل.. فلا يجوز الخلاف بشأنها.. وأجاز ذلك جمهرة كبيرة من العلماء.. ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا بعض الذين لا يعتد بفقههم.. لا تضيق واسعاً.. وسع الله عليك. وأخرست هذه الكلمات جميع الألسن التي كانت تفتي بغير علم.. فلا بد أن يكون ذلك الرجل متفقهاً عالماً، فاقتربت منه وأنا أمد له يدي محيياً: بارك الله فيك يا شيخ.. لقد حسمت الأمر.. ونحن في الأساس اعتدنا أن نختلف في كل شيء.. شكرني الرجل ثم قال: هذه حسنة مجالسة العلماء وخاصة إذا كانت مجالسة شخص مثل كبيرنا.. وانتبهت لكلمة كبيرنا.. ويا لها من صدفة.. هذا العلم المتدفق بسبب مجالسة كبيرنا؟ بالضبط هذا ما كنت أبحث عنه.. ولهذا لازمت الرجل بعد أن انتهت مراسم الدفن.. وأفصحت له عن رغبتي أن يكون لي كبير، ويبدو لي أن كبيرهم ذلك هو ما كنت أبحث عنه.. وافق الرجل أن يأخذني معه. ودخلت معه على كبيرنا وجلست وسط المتطلعين إليه وكان يشرح لنا نظرية في غاية من الأهمية.. طيلة هذا الوقت لم ينتبه لها أحد.. وهي تمثل ركناً أساسياً من أركان المعجزات الحقيقية في عصر العولمة.. كان كبيرنا يفلسف الأمور ويقول: في هذا المنعطف الخطير من تاريخ البشرية.. يهمنا أن نقدم الأنموذج الكامل المطلق لعبقرية أهل السودان.. وأنتم تعلمون أن البيضة إذا وقعت على الحجر فالويل للبيضة.. أما إذا وقع الحجر على البيضة فالويل أيضاً للبيضة.. والذين لا خيال لهم قنعوا بمصير البيضة في الحالتين.. ولكننا نستطيع وبشيء من التفكير أن نآخي بين البيضة والحجر بعد أن ندرس المقومات الفسيولوجية والمورفولوجية للبيضة وندرس المقومات الكريستالية للحجر.. فنكتشف أن المادة واحدة في كلتي الحالتين وتتكون من ذرة واحدة.. وكما أن الخلق خلقوا شعوباً وقبائل ليتعارفوا كذلك الذرات يجب أن تتعارف، وبذلك نزيل تلك القوة التدميرية للحجر ونبني القوة المقاومة للبيضة.. وهنا أخرج من جيبه بيضة ألقى بها على حجر فلم تتهشم ثم رفع الحجر وألقى به على البيضة فلم يهشمها.. وسط صياح وتهليل الحاضرين والذين رأوا بأعينهم براعة كبيرنا في عقد معاهدة عدم اعتداء بين البيضة والحجر. وخرجت من ذلك الاجتماع وأنا أكثر قناعة بأنني فعلاً كنت في حاجة إلى كبير.. وهرولت إلى البيت وجمعت أفراد الأسرة وقمت بتجربة البيضة والحجر إلا أنني في كل الأحوال كنت أحصل على نتيجة واحدة وهي الويل للبيضة.. بينما لم تفهم زوجتي ولا أطفالي ما كنت أحاول أن أقوم به. لقد وجدت عند كبيرنا قدرات مذهلة ظهرت في حكمته وحنكته في التآخي بين البيضة والحجر لدرجة أن البيضة كانت تقول للحجر: زح وأنا أقعد محلك.. وكانت تلقي بنفسها من الطابق الرابع على الحجر فلا تتهشم أو يخرج محها، غير أن كل محاولاتي التي قمت بها تيمناً بكبيرنا في هذا المجال باءت بالفشل .. فقد حطمت ثلاثة أطباق بيض على حجر واحد ولم يحدث أي تآخ بين البيض والحجارة.. وكان أبنائي يراقبون ما أفعله وهم غير مصدقين فيقول أحدهم: يا أبوي إنت عايز تعمل شنو؟ فأحدجه بنظرة مخيفة وأنا أرد بين أسناني: يعني شايفني قاعد أعمل في شنو؟ شايفك بتكسر في البيض.. غبي.. أنا ما قاعد أعمل كدا.. طيب بتعمل في شنو؟ قاعد يا شاطر أعمل صلح بين البيضة والحجر.. طيب الحصل شنو؟ الحصل إنو البيضة موافقة لكين الحجر رأسه ناشفة أبى ما يلين.. وحتعمل شنو؟ حأمشي من دربي دا لكبيرنا وأقول ليهو أشرح لي كيف انت قدرت تلين رأس الحجر. ورمقني أطفالي بنظرات تتهم عقلي بأشياء لا تسر.. بينما غمغمت زوجتي بكلمات سمعت بعضها يقول: مش أنا من زمان قلت ليكم أبوكم فكت منو؟