في نهاية العام 1984 «نوفمبر» تم قبولي بجامعة الخرطوم «كلية الاقتصاد»، وكان من حسن حظي وأنا «برلوم» أن أكلف بالعمل مع الشيخ «خالد أحمد المصطفى بكداش»، وكانت المهمة هي توثيق التاريخ السياسي للجامعة، وكان أول تكليف لي من قبل الأخ «بكداش» هو أن أذهب إلى «شركة التنمية الإسلامية» للالتقاء بالأخ مكي بلايل والأخ/ أمين بناني للاستماع منهما عن بعض المعلومات حول تاريخ الجامعة، وكان هذا أول تواصل مباشر بيني وبين الأخ مكي، ومنذ ذلك اليوم لم أعرف عنه إلا الصدق والالتزام الصارم بتدينه وأفكاره وقناعاته، فهو ابن الحركة الإسلامية الذي تشرّب مبادئها وقيمها وجعلها منهجاً وطريقاً لا يفارقه.. إذا تحدثت عن الاستقامة فهو مستقيم، وإذا تحدثت عن الصدق فهو صادق، وإذا تحدثت عن الزهد فهو زاهد لم تغيره السلطة ولم تبدله رغم أنه وصل لأعلى درجاتها «وزير اتحادي ثم مستشار للرئيس».. مكي طيب لكنه لا يجامل، مكي رقيق لكنه ليس ضعيفاً، مكي متحدث لبق وله قلم ولسان مبين.. وللذين لا يعرفون مكي فهو «مفكر» وله مؤلفات منذ أن كان طالباً بالجامعة وهو موسوعي، مثقف يأخذ ثقافته من أمهات الكتب، لا يكتب إلا عن معرفة وعلم.. بالإضافة للأخ مكي فإن علاقةً خاصة كانت تربطني بشقيقه سالم علي بلايل «الأسطى هارون الجبوري» كما كان يسميه الأخ عصام الدين عثمان السيد، وهو لا يختلف كثيراً عن مكي ويحمل ذات صفات وأخلاق مكي.. مكي صاحب مبادرات متعددة في مختلف المجالات، ومن بينها «جمعية خريجي مدرسة كادقلي الثانوية تلو»، وقد تشرفت بأن أرأس مجلسها الاستشاري كجهة داعمة للمكتب التنفيذي برئاسة الأخ مكي والذي بدأ في العام الماضي خطة طموحة لإعادة تأهيل المدرسة ودعمها بما تحتاج إليه، وقد بدأ هذا المشروع بالفعل بمجهودات مكي وإخوته أعضاء المكتب التنفيذي للجمعية.. إن مكي ليس فقداً لأهله الذين كان وفياً لهم وباراً بهم بل هو فقد للسودان كله لأنه من السياسيين القلائل الذين يجعلون من الفكرة ضابطاً وكابحاً لتوجهاتهم ونشاطاتهم ومواقفهم السياسية.. كان متشرباً لفكر الحركة الإسلامية ولكنه أضاف له بعداً آخر عندما أسس حزباً جعل منهجه وبرنامجه هو البحث عن العدالة فأسمى حزبه الذي أسسه «حزب العدالة».. مكي لم ينطلِ عليه خداع الحركة الشعبية التي حاولت أن تجعل الصراع في جنوب كردفان صراعاً اثنياً بين «نوبة» و«عرب».. فجرد قلمه ولسانه لمكافحة أكاذيب الحركة وتضليلها لأهله في جنوب كردفان فأحبه «العرب» قبل النوبة ووقفوا إلى جواره في الانتخابات في دائرة كادقلي، وساندوه في حزبه فكان صديقه «الفكي بقادي» رحمه الله وهو من أبناء «الحوازمة» من أكثر المتحمسين العاملين في حزب العدالة على المستوى القومي والولائي.. ومن الفرص التي أُتيحت لي مع الأخ مكي أنني كنت عضواً في لجنة للحوار مع «حزب العدالة» برئاسة د. مصطفى عثمان وعضوية الأخوين / عبد الجبار حسين ومولانا/ أحمد هارون، وقد كان «مكي» إيجابياً جداً في هذا الحوار والذي وصلنا فيه لمواقف متقدمة في بعض الملفات، ثم واصلت لجنة أخرى لم أكن عضواً بها ولكني وإلى وقت قريب كنت أتابع بصورة مستمرة مجريات هذا الحوار وكنت دائماً ما أرسل بعض المقترحات للأخ «مكي» ولقيادة المؤتمر الوطني.. مواقف «مكي» من الحركة الشعبية ومشروعها جعله هدفاً لسهامها فتعرض في العام الماضي لمحاولة اغتيال وهو في طريقه من الدلنج لمنطقة الصبي.. ودفع أهله أيضاً ثمن هذه المواقف المبدئية لمكي، فتعرضت منطقتهم لعدة هجمات من قوات الحركة الشعبية احتسب فيها ثمانية شهداء من أسرته.. من ميزات مكي انه كانت لديه رؤية واضحة في التفريق بين معارضة الحكومة ومعارضة الوطن وهذه واحدة من الفوارق بينه وبين الكثير من السياسيين وكان لا يجد أي حرج في أن يساند مواقف الحكومة في بعض القضايا التي يرى أنها قضايا وطنية لا تقبل المزيدات أو المناورات.. لقد ساهم مكي بتجرد في بناء جنوب كردفان حيث عمل بها وزيراً ونائباً للوالي، وساهم في بناء وطنه الكبير حيث تقلد عدة مهام ووظائف منها وزيراً للتجارة الخارجية ومستشاراً للرئيس، وكان يرجى منه الكثير في مقبل الأيام على المستويين الولائي والقومي ولكن الله اصطفاه مع إخوته الكرام «غازي» و«صحبه».. ولقد كان العام الماضي هو عام الحزن للأخ «مكي» فقد توفيت زوجته وبعدها بقليل توفي ابنه ثم استشهد بعض أفراد أسرته في منطقة «الصبي» على يد الحركة الشعبية.. اللهم تقبل مكي في عليين ولا حول ولا قوة إلا بالله «وإنا لله وإنا إليه راجعون».