من المعروف أن أي حكم عسكري يقدم ضباطاً للمحاكمة بتهمة انقلاب عسكري تكون هذه المحكمة أولاً: عسكرية تخضع للقانون العسكري بعيدة كل البعد عن أي قانون مدني أو محكمة مدنية. ثانياً تكون هذه المحكمة سرية للغاية لا يدخلها الإعلاميون ولا الصحف ولا القنوات الفضائية. كما يجئ الحكم دائماً من جهات عليا وليس خاضعاً لقرار المحكمة، وهذا بالضبط ما حدث في محاكمة المقدم حسن حسين عثمان في انقلابه في سبتمبر 1975 ، وقد دخلت أنا هذه المحكمة ببطاقة عسكرية سوف أحدثكم كيف حصلت عليها في سلسلة المقالات التي سوف ترد في هذه الصفحة أسبوعياً، وهذه المحاكمة لا يعرف تفاصيلها إلا من كان فيها من عسكر وقضاة ومحامين دفاع واتهام. واحكي يا تاريخ وحق النشر محفوظ لنا. انقلاب 5 سبتمبر 1975م وإعدام المقدم حسن حسين عثمان ورفاقه.. كل عام في الخامس من سبتمبر درجت الصحف السيارة اليومية أن تكتب وتتحدث في صفحاتها عن ذكرى انقلاب 5 سبتمبر 1975 بقيادة المقدم حسن حسين عثمان. غير ان هذه الصحف لم يفتح عليها الله بشاهد عيان ضد محاكمة هؤلاء الضباط في مدينة عطبرة، وذلك ليس تقصيرا من أحد وانما كان بسبب ان هذه المحاكمات اخذت طابع السرية الكاملة في عقد جلساتها حتى تم إعدام 22 ضابطاً ومدنياً ممن شاركوا في هذا الانقلاب. وحوكم من حوكم بالسجن وهنا لا أريد ان أوثق لعملية الانقلاب، وإنما أريد ان اوثق لجلسات المحاكمة، وبصفتي شاهد عيان لهذه المحاكمات. الكل يعرف أن الإنقلاب بدأ تنفيذه في الصباح الباكر كعادة أي انقلاب عسكري، وكان ذلك يوم الجمعة 5-9-1975 استغلالاً ليوم الراحة الاسبوعية. إذ أذاع المقدم حسن حسين عبر اذاعة ام درمان بيانه الأول وهو الأخير، وذلك بعد ان استولى على الاذاعة السودانية في ام درمان دون وجود أية مقاومة. وفيه اعلن نهاية عهد مايو وفيه حل مجلس الوزراء والاتحاد الاشتراكي السوداني والأمن القومي ومجلس الشعب. وفيه اعلن إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين وأطلق العنان لحرية الصحافة وأيد فيه استقلال القضاء، وأكد على حرمة الجامعات. كما دلف الى الحياة الاجتماعية فألغى كافة المراهنات الرياضية وحرم كل أنواع المقامرات. فقد كان ذلك دليلاً على منهجية وسلوك وعقيدة الانقلابيين. فشل الانقلاب لعدة أسباب منها العدد القليل من الضباط الانقلابيين المنفذين الذي لم يغط كل المناطق الحساسة التي من واجبهم تغطيتها حرصاً منهم على تأمين الانقلاب. وكانت نية بعض الانقلابيين فقط وقف دخول الحكم في اشتراكية يرفضها الانقلابيون والسودانيون عموماً، ويصعب منها الخروج مستقبلاً، وليست الاستيلاء على الحكم، وإنما هزة له فقط ولفت نظره على هذه الجوانب، وهذا كان واضحاً في أقوال الإنقلابيين أمام المحكمة، وأيضا فشل الإنقلاب لعدم تأمين الإذاعة والتلفزيون تأميناً كاملاً، الذي استغله أبو القاسم محمد إبراهيم، وجاء بقواته وقتل حماد الإحيمر وبعضاً من معه من حراس الإذاعة. وإلى لقاء في الحلقة القادمة حتى نصل إلى لحظات الإعدام رمياً بالرصاص في وداي الحمار. -- عائدون (1) البعض منا اعتلى الشيب رأسه والبعض الآخر غطاه الشيب كاملاً وآخرون أصيبوا بمرض الضغط، ومنا من أصيب بمرض السكري. ظواهر تدل على أن الزمن طال بهذه الفئات من المغتربين وهم خارج بلادهم وغالبيتهم قضى اكثر من نصف عمره بعيداً عن أهله وأحبائه يتذكرون مراتع الصبا يتألمون كثيراً عندما يمر شريط الذكريات وهم كانوا اطفالا أو هم شباب يستمتعون بالحياه بين والديهم ومع أقرانهم وأصدقائهم، بل ترجع صدى الذكرى لفصل الدراسة وهم بالأولية أو بالمدارس الوسطى او المدارس الثانوية أو حتى قاعة المحاضرات بالجامعات. ويتألمون كثيراً عندما يمر هذا الشريط امامهم ولو أن الزمن يرجع للوراء لتمنوا ان ترجع هذه الحياة وبلاش اغتراب وبلاش وجاهات من سيارة أو منزل أو حتى عمارة أو فيلا، فقد ضاع شبابه وضاعت أحلامهم وقضى احلى سنين عمره بين جدران سجن الاغتراب ذهاباً واياباً بين العمل والمنزل والعكس لمدة طالت حتى صرنا مثل حكاية النملة التي اخذت حبة وخرجت ثم اخذت حبة وخرجت الى ما لا نهاية. ترى هل تكون نهاية لهذه المشاوير؟؟ لا اظن ان هناك نهاية. طالما ان هذا المغترب يخاف من الرجوع للسودان ولربما خالي الوفاض لا منزل ولا معاش ولا تأمين طبي. ولربما يصاب بإغمائة حينما يسمع بأسعار السلع في السودان كيلو الضأن خمسين ألف جنيه، وكيلو الطماطم 15 ألف جنيه بل أن المليون جنيه لا تساوي ثمن فول وعيش لعائلة مكونة من ستة أفراد وإن كانت هذه الوجبة تصرف ثلاث مرات في اليوم لمدة شهر. ولكننا بإذن الله عائدون فقط نطلب من الدولة الآتي.. في الحلقة القادمة.