إن التمترس خلف جدران الآيديولوجيا والمرجعية الفكرية والانتماء السياسي في مواجهة الآخر وعدم الانفتاح عليه، إضافة إلى أنه يصيبك بداء الجمود الفكري ووهم أنك وحدك تمتلك الحقيقة، فإنه يضيع عليك فرصة إدراك ما هو خير وربما الأفضل عند الآخر لصالح الوطن والمجتمع، ولصالح تطور فكرك أنت شخصيا. ظلت هذه الخاطرة تصول وتجول في ذهني طوال لقائي الأول مع القامة الوطنية الراحل إبراهيم منعم منصور وكلما تصفحت مذكراته التحفة التي أهداني نسخة منها ولا أدري ماذا فعلت بها جحافل التتر وهي تجتاح منزلي بعد الحرب. قلت له في ختام ذلك اللقاء الأول، وهو قول رددته كثيرا في كتاباتي، للأسف، ظلت النخب السودانية تتصارع حد الاقتتال حقبا طويلة، دون أن تنتبه بأن الوطن كله أصبح في مهب الريح، وأن خطرا داهما يتهددنا جميعا، وأن ما يجمعنا في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقنا، وأنه آن الأوان لمراجعة القناعات، ولكيما نلتقي بجدية وإخلاص لصياغة واقع جديد في السودان. في العام 2019، ذهب الأستاذ محمد شومينا المحامي إلى القامة إبراهيم منعم منصور طالبا مزيدا من التوضيح لانتقاداته المعلنة لفهم وممارسة حكومة الإنقاذ للنظام الفدرالي، ودور الصندوق القومي لدعم الولايات، وما ذكره الراحل في مذكراته واصفا الحكم الفيدرالي بأنه كطائر له جناحان أحدهما السلطة والثاني الثروة، وأن الخلل في توزيع الموارد من شأنه تشجيع الهامش على مطالبات الانفصال. وقد مدّني الأستاذ شومينا مشكورا بملخص إجابات الأستاذ منعم منصور، ورأيت أن أشاركها مع القراء في الذكرى الخامسة لرحيله التي ستحل بعد يومين، في السادس عشر من يوليو/تموز، لما لها من مغزى وبلادنا يتهددها التفكك والتشرذم. يقول الراحل المقيم إن نجاح الحكم الفيدرالي يكمن في توزيع عائدات الموارد والثروة وتحديد الصلاحيات المالية بطريقة عادلة بين المركز والولايات، ووفق صيغة موائمة لبلادنا وليس نقلا عن تجارب بلدان أخرى لا تعاني من مشكلة التنمية وتفاوتها. فمثلا، قادة الإنقاذ كانوا مصرين على جعل الفولة عاصمة لغرب كردفان فى حين أن النهود هي الأفضل لها اقتصاديا. وعندما سألت المرحوم الترابي عن السبب أجاب بأن البترول سيكون فى الفولة ولا نريد أن يذهب عائده بعيدا! هذا قصر نظر في معنى الحكم الفيدرالي. نعم السلطة والثروة هما جناحا الفيدرالية، واقتسامهما العادل هو الأساس لأي حكم فيدرالي، وصحيح أن الصراع كان دائما يتمحور حول السلطة، لكن في أي دولة، لن يقوم حكم فيدرالي قويم يرضى عنه الهامش الفقير ما لم تعالج مسألة اقتسام الثروة وفق معايير واضحة وآلية مقبولة. وللأسف، دوما يتم خداع نخب الهامش بالسلطة. والإنقاذ كانت تعرف نقطة الضعف هذه، لذلك ظلت تمنح نخب الهامش السلطة لإقامة ولايات ومعتمديات وتهنئهم بأنهم تسلموا السلطة. وعندما يفيق هؤلاء من فرحتهم، يكتشفون بأنها سلطة بلا موارد، وحتى الموارد القليلة التي تعطى لهم يتم تبذيرها في العربات والاحتفالات والمرتبات والمخصصات دون رقيب أو حسيب، فيحدث عجز في ميزان الدخل والمنصرف ليتم فرض ضرائب باهظة وجبايات لسد هذا العجز، فيتذمر مواطن الهامش من هذا التضييق، ويتطور تذمره إلى الاحتجاج وحمل السلاح وربما المطالبات بالانفصال. أما صندوق دعم الولايات، فهو أساس ترسيخ الحكم الفيدرالي، ومن أهم أهدافه معالجة آثار الحروب واستقطاب الدعم الخارجي والداخلي لمشروعات تأهيل البنيات الأساسية في الولايات. ولكن قيادة الإنقاذ، كما يقول الراحل، كانت تستخدم الصندوق للسيطرة على الولاة إذا أراد أحدهم أن يشق عصا الطاعة، وذلك من خلال عدم تمويل الولاية وبالتالي فشل الوالي حتى وإن كان له برنامج هادف وتنموي. ويقول، إنه حاول إصدار قانون لمفوضية اتفاق السلام الشامل أسوة بما هو موجود فى كل العالم حتى تكون لها القوة في مخاطبة الأجهزة الحكومية والحصول على المعلومات وتنفيذ بنود الاتفاقية نفسها، لكن الاقتراح وجد مقاومة من قادة الإنقاذ، وأن علي عثمان عندما طرح عليه تمثيل سبعة ممثلين فى المفوضية من الجنوب، رفض وقال «كمان الجنوبيين عايزين يتحكموا فى الشمال» وأصابه الذهول والتوتر الشديد عندما نُبه بأن هذا منصوص عليه في الاتفاقية! واختتم الراحل إبراهيم منعم منصور حديثه إلى الأستاذ شومينا قائلا إن النظام الفيدرالي في عهد البشير تحوّل إلى غطاء شكلي لسلطة مركزية فاسدة، مما فاقم من انعدام الاستقرار وزعزعة الوحدة الوطنية، ودلل على ذلك بمجموعة من الحيثيات، منها: على الرغم من أن السودان كان يُدار رسميًا بنظام فيدرالي، إلا أن السلطة الفعلية كانت مركزة في يد الحكومة المركزية في الخرطوم. أما الولايات فكانت تعاني من ضعف الصلاحيات المالية والإدارية، مما حدّ من قدرتها على تقديم خدمات فعالة أو تنفيذ سياسات مستقلة. التوزيع غير العادل للسلطة والموارد حيث تم تهميش العديد من الولايات الطرفية، مثل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وكانت الموارد الطبيعية، كالنفط والمعادن، تُدار من المركز دون مشاركة عادلة للولايات المنتجة، مما زاد من الاحتقان والتوترات وتغذية الاحتجاجات المسلحة. التسييس وتعيين حكام الولايات من قبل الرئيس البشير ومن الحزب الحاكم دون انتخابات محلية حقيقية، مما أدى إلى إضعاف الشرعية المحلية وانتشار الفساد والمحسوبية. تجاهل النظام الفيدرالي لاحتياجات المناطق المهمشة، مما فاقم النزاعات، واستخدام القوة العسكرية لقمع المطالب المحلية بدلاً من معالجة الأسباب الجذرية للاستياء. كانت الولايات تعتمد على التمويل المركزي، الذي كان يُوزع بطريقة غير شفافة، ولم تكن هناك آليات فعالة للمحاسبة أو الرقابة على الإنفاق العام المحلي مما شجع الفساد. انعدام المشاركة الشعبية، حيث لم تكن هناك حكومة محلية حقيقية قائمة على الانتخابات الحرة، مما أفقد النظام الفيدرالي أحد أهم أهدافه، وهو تمثيل إرادة المواطنين.