في كل عام أجدُ أن هذا المقال يعبِّر عن واقع الحال في كل الحقب الماضية وربما اللاحقة أو في وطننا العربي والإسلامي الكبير، أعيده بمناسبة العام الهجري الجديد. أطلّ علينا عام جديد وتتقارب الأيام ويمضي الزمن لاهثاً دون أن يعطي معظم الناس فرصة لالتقاط الأنفاس ومراجعة صحائف النفس وتقليبها وقراءتها، ليس بلسان اللغة لكن بدواخل مكنونات حصادها، قد يخرج البعض دمعة ندم، وقد يرسل البعض ابتسامة كبرياء وتصميم ومواصلة مع سبق الإصرار والترصد مع هوى النفس ومد جسور التواصل مع همهمات الشيطان،، كثيرون منهم سيحملون فؤوساً وسواطير معنوية يهيلون بها على رؤوس الغافلين، وكثيرون أيضاً يخفون سموماً تختبئ وراء ابتسامات براقة، وآخرون يحتفلون عندما يسقط أعداءهم في لحظة ضعف أو غدر أو بإرادة القدر، وفي معظم الأحيان لا تبقى الأشياء هي الأشياء، فالأخضر قد لا يكون كذلك، والأحمر رغم قسوته الظاهرة قد يخفي خضرة وجمالاً ورحمة مستبطنة. تمر الأيام وفي كل أرجاء الدنيا ويزداد عدد القتلة ومنتهكي الأعراض وسارقي اللقمة حتى من أفواه الجياع، وفي كل يوم تتمزق أشلاء وتنهمر دماء الآمنين على الطرقات أو في الأسواق باسم نصرة الدين أو الحرية، ولا يمر عام إلا وسقطت حكومات في المنطقة وولدت أخرى مع أن معظم الجماهير ظلت واقفة على الرصيف تتفرّج وتقف عاجزة إلا من الأمنيات والدعاء الحار، لكن مع ذلك فإن اسمها يغتصب في بيانات الإفك وصناديق الانتخابت ويصدع بها الأفّاكون في أسواق السياسة، فمرة تسرق أحلامها غِيلة وتارة أخرى تطمس دموعها بشلالات الفرح الكاذب. ورغم هتافات الحرية والغضبات الجماهيرية هنا وهناك في وطننا العربي الكبير، لكن الفجر دائماً ما يشهد قبل بزوقه بقليل وافدين جدداً ضيوفاً على الزنازين المظلمة والعتمات المرعبة حيث يحتفل بهم الزبانية احتفالاً تحركه كوامن القسوة المستبطنة من حواري الفقر أو شبق التطلع الانتهازي وانحسار الوجدان الصافي، وحين يرتفع الكرباج والأسلاك الكهربائية ويعلِّق الضحايا على السقف ترتفع دعوات الظلم المكبوتة فلا تعترضها آليات التنصُّت ولا تحبسها عيون الغضب من الزبانية وتنداح، فيبقى مصيرها معلقاً بمشيئة الله الذي حرّم الظلم على نفسه، لكن الظالمين في كل مكان وهم غارقون في براثن الوهم يظنون دائماً أنهم يحسنون صُنعاً، بينما تطمئن قلوب السياسيين في قصورهم بأن العدل يسود رغم تجويع الخصوم وحبسهم وفتح أفواه القبور لبعضهم، فهم يصلون ويصومون ويحجون ويسبحون ويقنتون لكنهم قد يخرجون من الدين كما تخرج الشعرة من العجين، لكن مع ذلك فإن مقاتلتهم لا تجوز والتخندق ضدهم بالسلاح لا يجوز إلا إذا استباحوا دماء المسلمين بينما المطلوب هو المناصحة والصدوع بالحق رغم أن الثمن فادح فقد تقطع ألسنة هنا وهناك، لكن مع ذلك فإن الأقدار المسطرة في الأزل لها ميقات محود لايؤخَر ولايقدَّم، فالحكم كالميلاد والموت له لحظة مكتوبة يفجُّ لها القدرُ الطريقَ ويضع لها المسببات التي لا يمكن قطع الطريق عليها من كل شياطين الأنس والجن قاطبة ولا تؤخرها قوانين القهر، وفي بلادنا تزدحم الأحلام رغم متاريس الصعوبات وحوائط الصد، حتى صبية الشمس لهم أحلامهم الخاصة وربما المستحيلة تتراءى لهم وهم حتى داخل مصارف المياه الآسنة وللحمالين وتجار الأرصفة وبائعات الشاي وعمال النظافة أحلام لايقطعها إلا منطق الواقع وقسوته أحياناً، لكن لعل الأحلام المشتركة تدندن حول دواء مدعوم، وتعليم لا يلتف على المجانية ويأخذ فيه المعلمون حقوقهم في وقتها ويعطون رسالتهم حقها بضمير مهني يتمرد على مصاعب الحياة وقسوتها، وأحلام من صغار التجار والمنتجين والزراع والحرفيين والمصانع بتوفير مدخلات الإنتاج وتقليل تكلفتها وكبح الجبايات الأخطبوطية، وأمنيات بطرق مسفلتة لا تعرف المطبات ولا يكمن فيها الجبائيون، ومؤسسات يضل الفاسدون الطريق إلى أموالها، وإذا نجحوا في غفلة عابرة توقفهم عيون الرصد ولا يقف بينهم حائل بين العدالة حيث لا موازنات سياسية أو قبلية أوحماية لحزب أو حفظاً لهيبة أحد، وتمتد الأحلام الصغيرة فتشمل أمنيات بسلع رخيصة لايستطيع الوصول إليها الاحتكاريون ولايتلاعب المنتجون في مواصفاتها ولا يطففون في أوزانها ولا يخفونها خلسة لزيادة أسعارها وتمتد الأحلام أيضاً إلى فرص عمل متوفرة يمتنع فيها الانتقائيون ويُقدّم فيها أصحاب الخبرة والكفاءة، وتبرز أحلام من هنا وهناك لكن المهم ألا تبقى كعشم أبليس في الجنة، وكل عام والجميع بخير وعافية وبصيرتهم مفتوحة وقلوبهم صافية «لبن» تعشش فيها التقوى.