استضاف برنامج «في الواجهة» في حلقته الأخيرة الدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس حزب المؤتمر الوطني وعضو هيئة شورى الحركة الإسلامية، وقُدِّم في البرنامج بهذه الصفات الثلاث وبدأ مرهقاً وكان الإعياء بادياً على محيّاه ومع ذلك أجاب بلا تلعثم عن الأسئلة التي وُجِّهت إليه. وأقف عند بعض الحواشي قبل أن أدلف للمتون. وقد ذكر سيادته أنهم انحدروا من أسر شعبية بسيطة ولذلك فإنهم يلمسون نبض الشارع وبالطبع إن في المسؤولين من لا يزال مرتبطاً بالجماهير ويلم بما يدور وسط القواعد ومنهم من حدث لهم انفصام وانفصال وتنكروا لمنابتهم وأيامهم الخوالي وكأنهم ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، وهم الآن في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، وهناك نماذج لمن انحدروا من الأوساط الشعبية ولكنهم لم يتنكروا لها بل ظلوا فخورين بها وكان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ابن موظف صغير أو عامل بسيط في البوسته وتوفيت والدته وأضحى يتيماً من ناحية الأم وهو في العاشرة من عمره وعندما قُبِل بكلية الحقوق في جامعة القاهرة وكان من النوابغ المتفوقين اعترضت زوجة أبيه على الإنفاق عليه ودفع رسوم دراسته لأن راتب والده ضعيف وسيكون ذلك خصماً على احتياجات أطفالها الصغار، ولذلك التحق جمال بالكلية الحربية وشاءت الإرادة الإلهية أن يسير في منحًى كان له تأثير في تغيير مجرى الأحداث في مصر والمنطقة، وبالطبع أن لنظام عبد الناصر صفحات سوداء وسجلاً سيئاً في حقوق الإنسان وانتهاكها وفي حرب اليمن وغيرها، ولكن تعثر مسيرته التعليمية بسبب الفقر وقلة المال جعله ينحاز للفقراء وسعى بشتى السبل لتوسيع قاعدة التعليم العام والجامعي بدعم سخي من الدولة وبلا إرهاق للتلاميذ والطلبة وأسرهم ومن منطلق معرفته للواقع المصري التحتي سعى لمحاربة الإقطاع وقيادة ثورة إصلاح زراعي مع انحياز كامل للفقراء والمنتجين، وأقام السد العالي أي أن الفقر في صغره كان دافعاً له للانحياز للفقراء ورفع رايات العدالة الاجتماعية عندما آلت إليه السلطة ولعل اتجاهاته الإسلامية عندما كان طالباً ظلت لها ترسبات في عقله الباطن انعكست في سلوكه المنضبط على المستوى الشخصي، وقد رحل عن الدنيا وهو فقير معدم وسعت المخابرات الأمريكية وغيرها بشتى السبل لتلويث ذمته المالية ولكن محاولاتها باءت بالفشل لأنها لم تجد له دولاراً أو جنيهاً إسترلينياً واحداً هرّبه أو جنّبه في أي بنك بالخارج لقاء منفعة أو رشوة أو سمسرة وأن الرئيس الغيني الأسبق أحمد سيكتوري وهو مسلم عاش في كوناكري العاصمة وكان في مسكنه وملبسه ومأكله ومشربه يعيش كما يعيش سائر المواطنين العاديين دون تمييز عليهم. وأن الرئيس أسياس أفورقي ينتمي للأقلية المسيحية وسط الأغلبية المسلمة في إرتريا وهي بلد فقير وكان جلّ المحللين والمراقبين يحسبون أن فترة حكمه ستكون قصيرة ولكنه أمضى حتى الآن زهاء عشرين عاماً في الحكم، ولعل سر بقائه رغم التحديات الكثيرة المحيطة به أنه يعيش وسط أفراد شعبه كواحد منهم وما يزال حتى الآن يتجوّل وسطهم بالدراجة ويجلس معهم في المقاهي والأماكن العامة. ولنا أن نأخذ من النماذج في تاريخنا المعاصر الداعية الإسلامي المغفور له بإذن الله الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي عمل سنين طويلة بالمملكة العربية السعودية ووزعت أشرطته التي تحمل دروسه القيِّمة وأحاديثه العذبة وعمّت أرجاء العالم العربي والإسلامي ودرّت عليه أموالاً طائلة كالمطر المنهمر وكان إنساناً محسناً منفقاً على أعمال البر والإحسان والمعوزين والمحتاجين، وعاش في حي شعبي عيشة بسيطة كسائر الفقراء والمساكين بلا ترف وبذخ. وهنا في السودان أمثلة عديدة أذكر منها أن الشيخ الجليل الوالد الزاهد الورع الحافظ العابد الشيخ محمد أحمد أبو عزة الذي يعمل آناء الليل وأطراف النهار بمسيده المبارك وقريته المباركة أم عشر بشرق كردفان منذ عام 1946م في تحفيظ القرآن الكريم. وحفظ في مسيده ألوف لا تحصى من الحفظة، وظل زاهداً تكفيه عدة لقيمات وجرعات من لبن الإبل مع التواضع والانكسار لله سبحانه وتعالى.. وهؤلاء الأتقياء الأنقياء هم الذين يساهمون بإقامتهم لليل ودعائهم الصادق في حراسة وحفظ هذا الوطن العزيز. وذكر د. نافع أن أبناء القرى النائية قد اعتلوا السلطة وتقلدوا مناصب دستورية رفيعة واستدل على ذلك بأن الدكتور أزهري التيجاني من قرية صليعة «قِليصة» ثم استدرك قائلاً إنه من قرية أصغر وأن صليعة تعتبر هي عاصمتهم المحلية وليس في الأمر عجب أن يكون أحد أبناء تلك المنطقة وزيراً أو في موقع سياسي رفيع، ولكن السؤال هو: ماذا قدمت الحكومة لصليعة والقرى الصغيرة التي حولها في مجال التنمية والخدمات؟ وهل وجد الذين تخرجوا من أبنائها بالجامعات فرصاً في العمل أم ظلوا يمارسون مهناً هامشية بعد تخرجهم قبل سنوات؟ وهل هناك تمييز وخيار وفقوس في توزيع الفرص أم توجد عدالة؟ وأن الدستوري المنحدر من منطقة صليعة والدستوري المنحدر من تميد النافعاب مهامهم قومية، وهذا لا يمنعهم من تقديم الخدمات لمناطقهم التي انحدروا منها مع مراعاة العدالة وحقوق الآخرين أي أن صليعة وتميد النافعاب ينبغي أن تستوي عند نافع وأن تميد النافعاب وصليعة ينبغي ان تستوي عند أزهري عندما كان مسؤولاً في الماضي القريب قبل أن ينحسر دوره بالتدريج، وقد أخفق وحصل مؤخراً في انتخابات التصعيد لهيئة شورى الحركة الإسلامية الاتحادية على صوتين فقط من مجموع الناخبين في الكلية الانتخابية لولاية الخرطوم. وتحدث الدكتور نافع عن تعدد الألسن وكثرة الذين يصرِّحون في الذي يخصهم وفي الذي لا يدخل في دائرة اختصاصهم وأراد أن يختلق مبرراً مفاده أن هذا خطأ، ولكنه يحدث أيضاً في دول أخرى غير السودان ولا تثريب على المحللين والمراقبين أن يطرحوا رؤاهم الشخصية حول مختلف القضايا عبر الوسائط الإعلامية ولكن أن الذين يسرفون في التحدث باسم الدولة بدون تفويض رسمي فهم الذين يخلطون الأوراق ويخلقون الفوضى وحتى نافع نفسه خاض في قضايا هي من صميم اختصاص الأجهزة الأمنية والعدلية وهو ليس وصياً عليها، وهي التي من حقها أن تصرح او تمتنع، وفي الجزئية المتعلقة برئيس جهاز الأمن والمخابرات السابق والتي خاض فيها عدة مرات فإنه مجروح الشهادة لأن بينه وبين خصمه اللدود المهندس صلاح قوش ما صنع الحداد وهو الآن حبيس المعقتل وكان من اللائق أن يترك الجزئية المتعلقة به ويترك الحديث عنها لغيره لئلا يعتبر ما يدلي به فيه شماتة أو تصفية حسابات وأن التحريات والعدالة تأخذ مجراها ولا كبير على القانون، ومن الواضح أن القائمين على الأجهزة الأمنية والعدلية في غاية الانضباط. وأن هناك قضايا عاجلة وساخنة ينبغي معالجتها دون دفن الرؤوس في الرمال مع ضرورة ترك الكلام المعسول، وكفانا تخديراً وقد شبعنا حد التخمة من دغدغة العواطف التي أضحت كمحاولة هدهدة الأطفال حتى يناموا وأن العام المالي القادم ينذر بشرٍّ مستطير وعجز كبير متوقع في الميزانية يصحبه ارتفاع جنوني في الأسعار وانفلات في الأسواق وتضخم وفوضى ويكفي فقط ما نشهده الآن في مواقف المواصلات ولكن بمضاء العزيمة وقوة الشكيمة يمكن إذا وجدت إرادة حقيقية قوية للإصلاح الإمساك بقرني الثور الهائج لإيجاد معالجات جذرية حاسمة حازمة، ومعالجات جراحية كبيرة تؤول بموجبها ولاية المال العام وإدارته لوزارة المالية الاتحادية، مع وقف التجنيب بجرة قلم وإيقاف الصرف البزخي وحسم موضوع الشركات الحكومية مع العمل بأورنيك «15» وأورنيك«8» ولا بد من فتح كل الملفات المالية بشفافية، وهناك ملفات فيها غموض وعليها تعتيم وعلى سبيل المثال فقد شهدنا قبل عدة أسابيع حلقة في برنامج المحطة الوسطى في قناة الشروق استضيف فيها السيد سلام محمد البشير رئيس مجلس إدارة شركة الأقطان وذكر على مشهد ومسمع من جميع المشاهدين والمستمعين أن الشركة مديونة في الخارج وأن هذه المديونية تبلغ خمسمائة مليون يورو وقد أُصبنا بالدهشة، ولعل مقدمة البرنامج كانت أكثر دهشة من المشاهدين وحسبت أنه ربما أخطأ في الرقم ولكنه أكد للمرة الثانية أن المديونية تبلغ خمسمائة مليون يورو أي ما يعادل حوالى سبعمائة مليون دولار وهي تساوي بالجنيه السوداني بسعر اليوم أكثر من أربعة ترليونات ونصف ترليون غير الديون الداخليةر وهذا مبلغ أسطوري وحتى إذا اعتبرنا من جانبنا كمشاهدين ومستمعين أن الميزانية تساوي فقط عشرة في المائة من المبلغ المذكور فإنها تساوي أربعمائة وتسعين مليار جنيه، وهو أيضاً مبلغ خرافي وإذا أضفنا إليها الديون الداخلية فإن المبلغ يرتفع. والخطورة في الديون الخارجية ليس في أصل الدين فقط ولكن في أرباحه المركبة المتراكمة التي تزيد عاماً بعد عام إذا لم يتم تسديده في الوقت المتفق عليه، وهناك مثال محزن ومؤسف وهو أن الدكتور عبد الحليم المتعافي وزير الزراعة والري صرح بأن البرازيل لا تمانع في التعاون والتعامل ولكن هناك عقبة تتمثل في أن السودان أخذ في منتصف سبعينيات القرن الماضي قرضاً من البرازيل لما كانت تسمى بصات أبو رجيلة في عهد مايو وأن أصل الدين كان أربعة ملايين دولار وأن الأرباح المركبة تراكمت بمرور السنين وأصبح السودان مديناً للبرازيل بمبلغ أربعة وأربعين مليون دولار، وهنا تمكن خطورة المديونيات الخارجية لشركة الأقطان إذا تراكمت بمرور السنين وبالطبع أن للشركة أصولها ولا نريد أن نخوض في شراكاتها مع شركات خاصة أخرى يمتلكها أفراد أو أسر ولا في علاقاتها الرأسية والافقية ولا تهمنا أسماء الأفراد إذ لا معرفة شخصية لنا بهم ولا تربطنا بهم أي علاقة موجبة أو سالبة، ولكن الذي يهمنا هو مناقشة القضية في إطارها العام والشيء المفترض أن تعقد جمعية عمومية استثنائية لبسط الحقائق والأرقام في جو هادئ وبلا تشنجات وهتافات عدائية مضادة من الآخرين لأن الغرض هو الوقوف على الحقائق مجردة ومن حق أي شركة أن تسعى للأرباح بالطرق الصحيحة، وربما تكون لهذه الشركة إيجابيات وإنجازات في تقدير إدارتها السابقة ولن ينجلي الضباب إلا بالمكاشفة المفتوحة وربما تكون للشركة ديون كثيرة على غيرها بعضها، هالك وبعضها قائم وربما يكون لها صرف غير مرئي على أطراف أخرى في إطار العام لا الخاص من وراء ظهر المساهمين، والذي يدعو للحيرة أن بعض قادة المزارعين المؤثرين المنتمين للنظام حزبياً وتنظيمياً يهاجمون على الملأ بعض المسؤولين النافذين في السلطة دون أن يطرف لهم جفن ولعل مرد «طول اللسان هذا» أنهم يلمون بحقائق ومعلومات وأسرار يرتكزون عليها كأدوات ضغط والذي يثير الحَيرة والتساؤل هو السعي لقفل هذه الصفحات وطي هذا الملف أو تجميده، وقد تناولت الصحف أمر هذه الشركة كثيراً ولكن ربما ينطبق عليها المثل «شقي الحال يقع في القيد» وربما يكون ما خفي في شركات ومؤسسات أخرى غيرها أعظم!! والمطلوب أن يمسك السيد الرئيس ملف الإصلاح المالي والاقتصادي بنفسه ويكون هو المسؤول عنه مسؤولية مباشرة. وهذا قيض من فيض ومازالت هناك قضايا كثيرة نريد طرحها والأخذ والرد فيها مع الدكتور نافع، ونأمل في الحلقة التلفزيونية القادمة أن ينفذ لأمهات المسائل والقضايا الساخنة ويا حبذا لو قُللت المقدمات الطويلة التي لا لزوم لها ونأمل أن يعقد نافع علي نافع لقاءً مفتوحاً في إحدى قاعات الصداقة لتتم مناقشته والأخذ والرد معه بكل صراحة ووضوح.