كلّما دخلني خوف الموت، واقشعر بدني رهبة كراهة أن ألقاه.. وكيف لي أن أهرب فزعاً من رهبوته وجبروته.. هان عندي هذا الهول بتذكري لأفذاذ رحلوا وهم أفضل منّا جميعاً طهراً وعطاءً لا ينضب أبداً، قد لاقوا الموت في إقبال وترحاب.. هؤلاء استشعروا ما يلقون في الآخرة من أفضال جزلة جزاء ما قدموا من عميم الخير.. فهم تطمئن قلوبهم إنهم في الغد في النعيم الدافق.. هم في شوقهم العارم هذا يرحبون في لهف ويرجون العبور إليه سراعاً. لقد رحل سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم.. وسيدنا علي كرم الله وجهه وسائر الأنبياء والصالحين وأرباب الفضل في العالمين، وقد كانوا أجدر بالخلود، وما داموا قد رحلوا فهم أجدر بحزننا ما دمنا ننسى ما ينتظرهم من باذخ النعيم، وكان هذا أجدر بفرحنا! لكم أفرح بكلمات فصيح العرب شيبة وهو يعزي أمير المؤمنين في ابنه، قال له: إن جنّة الله خير له منّا، وإن ثواب الصبر عليه خير لنا منه، وإن خير ما يثاب عليه المرء هو ما لا سبيل لردّه. لقد ذقنا جميعاً المرارات بفقد الأحباب.. أمس من أول رحل العلاّمة مولاي الشيخ حسن عبد الكريم محمد عبد الرحمن بنيالا.. لزيم القرآن في علنه وسرّه.. لا يفارق لسانه.. وهو خلقه، يحسنه مع ما فيه من عجمة بالغة تكاد لا تتبين كلامه ولكنك إن سمعته يتلو القرآن لوددت ألا ينقطع وارده طروباً طريّا.. ثم لو حدثك عنه حديث العارف العالم لحسبت أن الدنيا العريضة ليس فيها كمثله من يضارعه. رجل نادر في طهره.. وقيذ الجوانح.. نقي السريرة.. يكاد يذوب رقّة وعطفاً وعفّة لم تدنسه الأهواء ولا أعراض الدنيا الدنيّة.. نظيف بدنه وقد توافق ببواطنه هو رجل لم ينشغل في كلّ حياته العريضة بغير القرآن وعلومه. كان أول ما عرفت شيخنا حسن من صديقي سيد يوسف أبو عاقلة وكان وقتها يعمل بالتجارة معنا في سوق أم روابة الزاهي الزاخر وقتها.. وكان عقب وفاة والده عليه الرحمة قد ذهب لنيالا للإشراف على أعمال والده هناك.. ثم طاب له المقام، فمكث زمناً فقدناه فيه معشر الأصدقاء.. وكان يتعلّل أنه قد وجد بحراً للعلوم هناك فاستقلّ سواقينا! وما فتئ يحدثنا بأريحيّة عالية عن شيخه حسن، وقد جالسه في حلقة التلاوة في المسجد الكبير العامر، ثم لمّا توثق من فضله وعلمه لازمه كظله في حلّه وترحاله، مثلما يفعل الحوار المريد لشيخه.. ولا مشاحة فقد كسب معرفة تامة تحصلها في دأب ومراس ونال بالصبر والمداومة من شيخه (اجازة) هي أرفع ما تحصله من الدنيا. لقد سعدت برؤية شيخنا حسن عند زيارتي لصديقي السيد بنيالا.. حينها قد عذرته وعلمت أني عذلته.. لانقطاعه، وعلمت قدر جهلي.. بل حسدته، فمن يلقي مثل الشيخ في نقائه وعلمه ينسى متاع الدنيا ومتعتها. بعد هذا أريد أن استميح القارئ الكريم أن أنقل إليه شيئاً من سيرة الراحل عساني أجد ثواباً بعملي وقد تحصلتها من أخي السيد يوسف أبو عاقلة ومن معرفتي الخاصة به. ولد الشيخ حسن بقرية جُقمة الشرقية وهي تابعة لمحليّة بندش بدارفور في «1930م». وقد قرأ القرآن بداية عند الشيخ يونس كوجقين بقرية أُبْر بمحلية سيا، ثم بعدها واصل القراءة عند الشيخ علي حسين محمد بقرية رُسُونا بمحليّة وادي صالح. ثم بعدها قرأ على الشيخ إدريس داود بمحليّة وادي صالح، ثم أخيراً ختم قراءته عند الشيخ عيسى عبد الرسول بقرية تورقو. لقد حفظ الراحل القرآن الكريم بإحسان تام وعمره «23» عاماً ونال إجازات من شيوخ كبار، وقد كانوا يطلقون عليه لقب (حسن قلقلة) وذلك لإحسانه مخرجها. أذكر ذات يوم اسمعني أخي السيد تسجيلاً لآياتٍ بيّناتٍ وهزّني الطرب فاندفعت أثني على تلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الذي حسبته صاحب التسجيل! ولكم دهشت لمّا علمت أن هذا الصوت هو شيخه العالم حسن عبد الكريم.. يضارع مشاهير القراء إتقاناً وتمكناً، وقد أفلح السيد في تسجيل القرآن الكريم كلّه تلاوة الشيخ حسن عليه الرحمات. وفي رمضان «2001م» رأيت أن أمتع عمري بوقت أصرفه مع صديقي سيد وقد انقطع عنّا، عساني استجلي السبب الذي استأثر به دوننا... وكنت أعلم أنه شيخه الذي انقطع إليه ينهل من فيوضه. ولكم هالني ما رأيت من انصراف الناس إليه وتحلقهم لسماعه في باحة المسجد زرافات، ويقيناً أنا لا أعرف تجمعاً قرآنياً بمثلما رأيت هناك.. وكنت في كل حين أشتم روائح الجنة ضواعة تفعم أرجاء المسجد الفسيح. لقد كانت حياة الراحل جميعها تراوحاً بين مسجدين انقطع لهما هما مسجد الفكي علي، ومسجد التيجانية، وقد جعل من المسجد الأول سكناً له لمدة أربعين سنة، وقد توفاه الله فيه يوم «29/12/2012م». من أعجب ما أدهشني في حياة الرجل الصالح أنه كان يداوم على إطعام الطير مدة حياته وكان يقتني لنثر الدخن للطير برشين ثم ماعوناً من فخار الماء.. وهذا مألوف ومعروف في كثير من الناس، ولكن الذي لا نألفه ولا نعرفه في غيره أنه كان رضوان الله عليه يطعم النمل.. أي والله.. هكذا! وقد أخبرني أخي سيد أن شيخه كان يصنع الدخن للطير والنمل قبل صلاة الصبح، ثم بعدها يتوجه لصلاة الصبح.. وبعدها يطعم كدايسه. لقد قرأ شيخ حسن على الشيخ أمين محمد إبراهيم المصري ودرس عليه سبع قراءات وقد أجازه فيها جميعاً، ونعلم أن للشيخ أمين سبع شهادات إجازة من مشيخة الأزهر الشريف وهو عضو لجنة تصحيح المصاحف وخبير القراءات. هكذا أصبح الشيخ الراحل حسن يدرس سبع روايات في حلقات الدرس، وقد أخذ عنه صديقنا سيد وإجازة في رواية حفص وعمر وقالون وورش.. وهذا من فضل الله عليه. أما في بقيّة العلوم الدينية فقد درس الفقه على الشيخ مختار ثم درس التوحيد والحديث وعلم الميراث والتفسير، وأشهد أني ما سألته عن أمر إلا أجابني باقتدار فقد كان يفتي في المذاهب بحذق. قال الشيخ أحمد الربيع الطاهر شيخ القونية في دارفور لشيخ مختار ناصحاً: إذا أردت أن تقرأ القرآن في دارفور فاقرأ على فكي حسن. وقد قرأ شيخ مختار القرآن على فكي حسن، وهو لم يجد حرجاً وهو العالم الجليل أن يأخذ التجويد عنه ليقينه بمكانته العلمية وفعلته. لقد أسخى الله الشيخ حسن بجهوده الثّرة حلقات العلم وترك أثراً لا ينقضي خبره. لقد حجّ الشيخ لبيت الله الحرام مرات، وله في محبة الرسول الكريم هيام ومواقف مشهودة كان إذا سمع مدح المصطفى صلوات الله عليه فاضت دموعه.. واعترته هزّة الطرب والشوق.. قال السيد يوسف أبو عاقلة إنه طيلة ملازمة الشيخ لم يره ضاحكاً، كان يتبسم وحسبه هذا فرحاً وطرباً. في الخرطوم قبل شهر من رحيله وقد جاء به تلميذه الوفي السيد للعلاج من الحصوة، قبل العمليّة كان دمه ضعيفاً وقد نصحه الدكتور عبد الرؤوف قائلاً: اكل يا شيخ حسن علشان تعمل دمّ علشان نعمل العملية.. هنا تبسم شيخ حسن قائلاً: خلاص دم مافي تاني.. إحنا مسافرين.. وطلب الرجوع لنيالا. قال لي السيد إنه قبل رحيله بيومين اشترى كفنه، ثم دفع لسيد من حرّ ماله ذخيرة ما اقتنى «5000» جنيه قال إنها للكرامة بعد موته إن شاء الله. وحكى لي وقد رآه عقب رحيله لحظة غسله إن وجهه كان يتلألأ.. وقد شاهده نفر كريم... قال تعالى: (وأما الذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة هم فيها خالدون) صدق الله العظيم. عليه الرحمة أيها العالم الطاهر.. أيها الشيخ الجليل «ولا حول ولا قوة إلا بالله».