أشهد بأنك رجل يعشق تقديم المبادرات وأعلمُ أنَّ المبادرين هم من يقودون حركة التاريخ ولكن هل تصلح المبادرات في كل زمان وكل مكان؟! كنا منذ شرخ الشباب ونحن نتدارس العمل التنظيمي نتداول قصة الشيخ الشهيد حاج نور أنزله الله الفِردَوْس الأعلى فقد قصد حاج نور أيام كان طالباً بجامعة الخرطوم (بار رويال) وبار رويال لمن لم يشهدوا تلك الأيام قبل أن يُريق الرئيس نميري الخمور ويقيم الشريعة، رحم الله نميري وجعل ذلك في ميزان حسناته، أقول إن بار رويال كان متجراً يبيع مختلف صنوف الخمور الأفرنجيَّة وليست البلديَّة التي كانت تُباع في الأنادي.. قصد حاج نور بار رويال بعد المغرب مباشرة وصعد على منضدة وأخذ يخاطب رواد البار الجالسين حول المقاعد وأمامهم البيرة والويسكي وغيرها من الخمور وارتفع صوتُه منكراً ذلك المنكر مرغياً مزبداً مزمجراً فكان تعليق أولئك الحضور (الواعين) في معظمه ساخراً متهكِّماً أما من كان منهم في حالة غيبوبة فقد كانوا في حال آخر وكنا نحكي عن قول بعضهم (خُد والله زولك ده راسه خفيف خلاس.. سِكِر من المغرب)!! أي أنه غاب من أول كأس؟! كنا نحكي مثل هذه القصص ونستعرضها في إطار حديثنا عن الزمان والمكان المناسب لتقديم الدعوة.. بعضُنا كان يقول: قل كلمتك وامش فأنت مأجور في كل الأحوال بينما تقول مدرسة الإعلام الحديثة: قل كلمتك في المكان المناسب والزمان المناسب. أقول هذا بين يدي مقال خطَّه يراع السيد الصادق المهدي في صحيفة الأهرام المصرية الصادرة يوم الخميس الماضي قدَّم فيه الرجل مبادرة لحل الأزمة المصريَّة.. تخيَّلوا مبادرة لحل مشكلات مصر وخلافات القوى السياسيَّة المختلفة!! ما دعاني لكتابة هذا المقال ناصحاً الرجل الذي لا أقارن البتة بين خبراته السياسيَّة الجمَّة وخبراتي المتواضعة أنَّه لم يكفَّ عن تقديم مبادراته أينما ذهب وحلَّ دون اعتبار لعاملَي الزمان والمكان وما إذا كانت تضيف لرصيده السياسي أم تنقص منه وصدقوني إني أقول ذلك من باب الحرص على مكانة الرجل ألا تهتز وأن يكون محل تقدير واحترام يزيد من رصيد السُّودان وشعبه وزعاماته السياسيَّة فنحن نفخر بكل من ينبغ من السودانيين في المحافل الدوليَّة ونصدم ونستاء مما يُلحقه بعضُهم بسمعة السُّودان فالناس يُقيَّمون بجنسياتهم بأكثر مما يُقيَّمون بأشخاصهم. أقول ذلك على خلفيَّة تلك السخرية اللاذعة التي صدرت عن زعيم حزب الدستور المصري محمد البرادعي الذي أعتبره أحد مصائب المشهد السياسي المصري المحتشد بالكثير من التافهين والتافهات الذين يُصرُّون على أن يُعيدوا مصر إلى سابق عهدها أيام كانت كنزاً إستراتيجياً لإسرائيل كما وصف نتنياهو الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك. البرادعي تحدَّث عمَّا بلغته مصر من هوان جعل حتى الصادق المهدي يقدِّم مبادرة لحل الإشكال المصري!! بعد تلك العبارات التافهة من رجل تافه هو البرادعي كنتُ أرجو أن يقتصر دور المهدي على تقديم حزبه لمصر وللساسة المصريين وتوطيد العلاقة بين السودان ومصر ولا بأس من أن يشكو لهم ما يجد في السودان من تضييق ولكن أن يستمر في تقديم المبادرات فهذا في نظري ما لا يجوز. السبب الأول أن السودان ما عاد هو سودان المحجوب الذي كان يجمع العرب بمن فيهم الخصمان اللدودان الملك فيصل رحمه الله وجمال عبد الناصر ويقود بهم العرب بعد هزيمة حزيران (1967) أمام إسرائيل ويدشن الخرطوم عاصمة للاءات الثلاثة فقد انحطَّ السودان وأصبح مطمعاً لكل طامع حتى الأنظمة والدول الصغيرة التي صنعها بيديه باتت تحشر أنفها في شؤونه وذلك أمرٌ لا دخل ولا مسؤولية للسيد الصادق فيه فقد جنى عليه ما حل بالسودان من ضعف واستخذاء في المشهد السياسي العالمي. ثانياً كان الأولى بالسيد الصادق المهدي أن يعلم أن كل الشعب المصري تقريباً ناهيك عن الأحزاب تعلم ما يعتور السودان من مشكلات أضخم بكثير من مشكلات مصر التي لا تعاني من حروب أهلية كما لا تعاني من مشكلة صراع حول الهُويَّة الوطنية واقتصادها لا يُقارَن باقتصاد السُّودان الهزيل ومكانتها الدوليَّة كذلك وهي تعيش في حالة ثورة مباركة وحريات فتحت الطريق على مصراعيه لتداول حقيقي للسلطة سيُفضي في نهاية الطريق إلى حكم راشد يُعيد مصر إلى دورها القيادي التاريخي بإذن الله. كان عليه أن يعلم أنَّ أيَّ فرد مصري تقريباً سيدهش أن يتقدم زعيم سوداني لحل مشكلات مصر بدلاً من أن (ينظِّم) ويحل مشكلات بلاده (المتلتلة) فمن يشتعل الحريق في بيته لا يُقبل منه أن يسعى في إطفاء حرائق جيرانه مهما بلغت. مبادرة الصادق المهدي لحل المشكلة المصريَّة في كثير منها استنساخ لمبادراته السودانيَّة خاصَّة إزالة الاحتقان وتحقيق الإجماع الوطني لكن ما لفت نظري أنَّه عندما حاول أن يُشخِّص حالة الاستقطاب الحادَّة التي تشهدُها مصر قال إنها ناشئة عن الخلاف حول إسلاميَّة أو مدنيَّة الحكم ثم قال، وهذا ما أدهشني بحق في الصادق (الإمام) حفيد (الإمام) المهدي، قال نطالب السلطة الحاكمة بأن تعلن عن (استعدادها لمراجعة بعض بنود الدستور الخلافيَّة بصورة تكفل مدنيَّة الدولة وحقوق المجموعات الدينية في تطبيق أحكام دينها). يقول الإمام هذا الكلام بالرغم من أنَّ الأحزاب الإسلاميَّة حازت على أكثر من (75)% من أصوات الشعب المصري ولا أفهم قوله عن تنازل السُّلطة عن إسلاميَّة الحكم لصالح مدنيَّة الحكم سوى أنَّها دعوة إلى العلمانيَّة بالرغم من أنَّ الدستور المصري لم ينصَّ حول إسلاميَّة الحكم سوى على سيادة (مبادئ الشريعة) وهو تعبير خفيف لم يعترض عليه حتى العلمانيون كما أن حزب الحرية والعدالة الذي أنشأه الإخوان المسلمون طرح شعار (دولة مدنيَّة بمرجعيَّة إسلاميَّة) فما هو الهدف من إقصاء إسلامية الدولة أيها الإمام؟!