تحولتُ بعد السنة الأولى بالمعهد العلمي إلى السنة الرابعة بمدرسة الأبيض الغربية الأولية وكان ناظرها يومئذٍ شيخ حمد. ومن بين أساتذتها الذين تركوا في نفسي أثراً لا يُمحى ولا يزول: شيخ السيد الأمين مصطفى، ذلك الأستاذ المتفاني في عمله الذي حبّب إلينا الدرس، وتعهدنا بالرعاية، حتى أصبحت مدرسته الأولى في الدخول إلى المدارس المتوسطة. كان يحضرنا في العصر ويراجع معنا الدروس، وبدأ يعلمنا مبادئ اللغة الإنجليزية ونحن مقبلون عليها في المرحلة المتوسطة، وقد رغبنا في القراءة الحرة وحببها إلينا، فكان يطلب لنا الكتب التي تناسبنا من مصر.. في القصة والشعر والأدب، والاشتراك في مجلة الصبيان ومجلة سندباد. ومازلت أحتفظ ببعض الكتب التي اقتنيتها منذ ذلك العهد: مثل ديوان حافظ إبراهيم وديوان الجارم. حبب إلينا شعراء المهجر وكتابات طه حسين وقصص عبد الحليم محمد وشعر محمود غنيم والجارم وحافظ إبراهيم. درست في المدرسة الأولية العلوم التي كانت تنقصنا وهي تاريخ وجغرافيا السودان.. كانت دروس الجغرافيا محببة إلينا لأننا كنا نسافر فيها إلى مناطق ومدن مختلفة في السودان لزيارة أصدقائنا: «الصديق في القولد، والقرشي في الجفيل وغيرهما». كنا نسافر بالقطار ونحن جلوس في مقاعدنا نحدث أصواتاً كصوت القطار، وعندما نسافر باللواري نحاكي صوت اللوري وهو يطلع القيزان. وكنا ننشد فرحين: في القولد التقيت بالصديق.. انعم به من فاضل صديق خرجت امشي معه في الساقية.. ويالها من ذكريات باقية وكم أكلت معه الكابيدا.. وكم سمعت أورا واو ألودا أو نقول ونحن نشق فيافي كردفان: خدعتُ ناظري الأبيض لمّا.. صورت من ملائك الله إنسا نفرٌ لا يزور قلبي همّ.. في حماهم ولا ترى النفس تعسا ورعى الله في الحمى بدويات.. زحمن الطريق مشياً و جرسا هن في الحسن للطبيعة أشباه وإن فُقنها شعوراً وحساً ما ألفن الحياة في ضجة المدن.. ولا ذُقن للفساتين لِبْسا باديات النهود غير وشاح.. صان نهداً وخان آخر مسَّا مثل قوس الغمام يخترق .. الغيم ولا يوسع السحائب طمسا كلُّ ميّاسة المعاطفِ تدنو.. بقوام يشابه الغُصن ميّسا توجت رأسها ضفائر سودٌ.. تتلاقى لديه طرداً وعكسا وكست لفظها الإمالة لينًا.. لم يُخالطْ إلا الشفاه اللّعسا أنتِ من كردفان مهجر روح لم تغادر إلا لتسكن قُدسا اصطفت من جمالك الغضّ ليلى.. واصطفت من فؤادي الصَبّ قيسا ألا رحم الله الشاعر ناصر قريب الله ورحم الله الأمين الصادق الأصم حين قال: أيا أهل الأبيض لو علمتم.. فإني شفّني بكُمُ الوُلوعُ تركتكمُ وقلبي مستهامٌ.. وفي جنبيّ خفاقٌ صديعُ أيا أهل الأبيض مذْ ناني.. محيّاكم نأى عنّي الربيعُ لقد كنا على شملٍ جميعٍ.. وقد يتبدَّدُ الشملُ الجميعُ ومن هناك قمت للجيفيل.. ذات الشهاب النضر الجميل نزلتها والقرشي مضيفي.. وكان ذاك في أوان الصيف وجدته يسقي جموع الإبل من ماء بئر جره بالعجل ومما حفظنا في المرحلة الأولية قصيدة الشاعر السوداني الفذ عبد الله محمد عمر البنا التي يجري فيها حواراً بين أعرابي وحضري يعبّر كل واحد منهما عن حبه لموطنه.. وينتهي الحوار باقتناع البدوي بحياة الحضر ورغبته في الانتقال للعيش بالمدينة.. يقول الشاعر وهو يحكي قصة البدوي: سافرت والأسفار بابُ الرزق.. أطلب مالاً أو كريم خُلق رافقني في سفرتي أعرابي.. فكان لي من خيرة الأصحاب آنسني من مضحكات البادية.. بما به يزول حزن الباكية ابتدأ المقال بالسلام.. وقال حين سار في الكلام يا من ألفت سكن البيوت.. وما بها من ملبس وقوت إن البيوت حرها شديد.. وما بها لنعمة مزيد الماء يُشرى عندكم مع الحطب.. والنار والقش بأثمان الذهب ولبن المعزى لكم يباعُ.. وهنّ في بيوتكم جياعُ فلو سكنت معنا في البطانة.. لما رأيت مثلها مكانة يكفيك في دنياك كلب صيد.. يكون للغزلان مثل القيدِ تمنع النفس من الأرانب.. ومن حليب لبن ورائب إنا إذا أمطرت السماءُ.. فأرضنا جميعها خضراء وإبلنا من حولها عظامُ.. كأنهنّ رتعًا نعام وبقر الحيّ لها دويّ.. كأنما قرونها العصيّ والضأن والمعزى تبيت حولنا.. نحبها كحبنا أطفالنا إذا التقينا مغرباً في الساحة فكالنساء صحِنْ في مناحة والناس عندنا جميعاً إخوة.. وهم لدى المرعى الجميل أسوة نحن ألفنا سكن البريّة.. لحسن ما فيها من الحُرّية ويرد الحضري قائلاً: أحبته نطقت يا بن العمّ.. فاسمع وقل ما شئته من حُكم يا بدوي عيشكم جديب.. يزوركم في كل ليل ذيب فسر معى أدخلك المدينة.. وانظر إلى خيراتها والزينة تلق بها الحديد والنحاسا.. وذهباً وفضة وماسا والعلم والطب وجمع المال.. ومظهر الآداب والجمال والطيب والمعطم والحريرا.. والأنس والحكام والسرورا أبناؤنا شُغلهم المدارس.. بهم يعزّ القطر والمجالس وفي القرى يُنشر أمر الدين.. وتسهل الحرفة للمسكين ويسهر الحكامُ، والأنام.. جميعهم في راحة نيام