منذ شكلت لجنة الخبراء لتعديل الدستور الذى تم استفتاء المصريين عليه، ظل الغموض يحيط بملابسات تشكيلها وطبيعة مهمتها وجلسات حوارها. صحيح أننا نعلم أن سلطة غير منتخبة هى التى اختارتها طبقًا لمعايير غير معلنة، ونعلم أيضًا أن أعضاءها العشرة هم من رجال القانون المحترمين الأمر الذى أثار استغرابنا لأن رجال القانون لهم دورهم فى صياغة مواد الدستور وليس فى وضعها أو تعديلها. وقد فهمنا أن لجنة العشرة سوف تقترح التعديلات، لتُعرض بعد ذلك على لجنة أخرى من خمسين شخصًا لكى تقوم بالمناقشة الأخيرة لمواد الدستور قبل أن تُطرح للاستفتاء العام. ورغم أن لجنة الخمسين هذه مجرحة فى شرعيتها، من حيث إنها تمثل اختيار السلطة وليس اختيار أو انتخاب المجتمع، ورغم أنها أيضًا مجرحة فى تركيب عضويتها الذى بدا فيه أنه تعمد حصار التيار الإسلامى وإقصائه فى تعزيز لفكرة تمثيل اللجنة للسلطة وليس للمجتمع، إلا أن لى ملاحظة أخرى تتعلق بمهمتها التى أتصور أنها كان ينبغى أن تُنجز قبل العرض على لجنة الخبراء العشرة. بكلام آخر فإن اللجنة العامة التى ستضع الدستور فى صورته النهائية يفترض أن تتولى هى التعبير عن الرؤية السياسية وتحدد الخيارات. وبعد أن تنتهى من ذلك تقوم اللجنة القانونية بصياغة تلك الرؤية. لكننا فعلنا العكس فقلبنا الآية فقمنا بوضع العربة أمام الحصان. إذ كلفت لجنة الخبراء بوضع التعديل ورسم الصورة ثم طلب منها أن تعرض نتائج عملها على لجنة الخمسين. إذا غضضنا الطرف عن ذلك الوضع المقلوب، وضممناه إلى جملة ما يحيرنا فى شأن ما يجرى، فسنجد أن طريقة عمل اللجنة تبعث على الحيرة أيضًا. إذ كما أننا لم نعرف شيئًا عن خلفيات ومعايير اختيار أعضائها، فإننا لم نعرف شيئًا عن أسلوب عملها. وإذا قارنا الطريقة التى عملت بها بالنهج الذى اتبعته اللجنة التأسيسية للدستور المجمد، فسنجد أن اللجنة المذكورة تصرَّفت باعتبارها خلية سرية تجتمع بعيدًا عن الأعين، فى حين أن اللجنة التأسيسية كانت تُجرى مناقشاتها فى العلن. وتبث جلساتها على شاشات التليفزيون. لن تتوقف حيرتنا عند ذلك الحد، لأن اللجنة أعلنت فى الأسبوع الماضى أنها أدت مهمتها فحذفت 32 مادة من الدستور المستفتى عليه وقامت بتعديل عدة مواد أخرى. سأصرف النظر مؤقتًا عن مشروعية قيام لجنة معينة بحذف وتعديل نصوص الدستور الذى وضعته جمعية منتخبة واستفتى عليه الشعب. الأمر الذى يعد عدوانًا على الإرادة الشعبية. وسأبدي ملاحظة حيرتني أيضًا فى بعض ما تم حذفه وتعديله من مواد، وأقول البعض، تاركًا التعليق على البعض الآخر لمن هم أفقه مني في الشأن الدستوري. سأتوقف عند أربع مواد حذفت هى: المادة 11 التى نصت على أن الدولة ترعى الأخلاق والآداب والنظام العام والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية والحقائق العلمية والثقافة العربية والتراث التاريخى والحضارى للشعب المادة 12 التى نصت على حماية الدولة للمقومات الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع، وتعمل على تعريب العلوم والمعارف المادة 25 التى نصت على التزام الدولة بإحياء نظام الوقف الخيرى وتشجيعه، وتنظيم توزيع عوائده على مستحقيها المادة 44 التى حظرت الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة. من بين المواد التى حذفت واحدة نصت على أخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر فى الشؤون المتعلقة بالشريعة، وهذه جملة حذفت من المادة الرابعة للدستور كما عدلت المادة السادسة التى نصت على قيام النظام السياسى على مبادئ الديمقراطية والشورى والمواطنة، بحيث اكتفى النص المعدل بالإشارة إلى أن النظام السياسى قائم على تعدد الأحزاب. حين يستعرض المرء هذه المواد فسوف يجد أنها ليست من الأهمية بمكان، ولكن دلالة الحذف أو التعديل فيها تعبر عن حساسية تثير القلق فضلاً عن الدهشة، ذلك أن القاسم المشترك بينها يتمثل فى أنها تعبر بصورة أو بأخرى عن الهوية الإسلامية للمجتمع، ومن ثم فإن إيرادها ضمن الدستور يعد أمرًا طبيعيًا ومفهومًا. أما حذفها فإنه يبعث برسالة سلبية خلاصتها أن الوضع المستجد بعد 3 يوليو حريض على استبعاد هذه الهوية أو إضعافها، فليس مفهومًا مثلاً لماذا يُحذف من الدستور نص يدعو إلى التزام الدولة برعاية الأخلاق والآداب والنظام العام، إلى جانب القيم الدينية والوطنية والحقائق العلمية. ولماذا يُحذف النص على حماية الدولة للمقومات الثقافية والحضارية للمجتمع مع العمل على تعريب العلوم، ولماذا يُستبعد النص على إحياء نظام الوقف ولماذا يلغى الالتزام بالديمقراطية والشورى، ولماذا يلغى نص يحظر الإساءة إلى الأنبياء والرسل كافة؟ إنني أريد أن أحسن الظن بالذين أجروا تلك التعديلات، لكنى لا أجد لذلك سبيلاً للأسف. وليست هذه هي المشكلة الوحيدة لأن مثل هذه المقدمات لا تبشر بالخير، ولا تدعونا إلى إحسان الظن بما هو قادم على يد لجنة الخمسين، وإنما تدفعنا إلى التشاؤم بالمستقبل، الأمر الذى يجعلنا نتوقع الأسوأ لأن المنحدَر فى هذه الحالة لا نهاية له.