الشعب السوداني كله يصرخ هذه الأيام من صدمات الاقتصاد التي شكلت تحديات كبيرة لكل مناحي حياته، حتى أصبح يخيل للكل أنهم مهووسون بهذا الذي يتعرض له اقتصادنا برغم أن الحكومة قد أرسلت إنذارات مبكرة مفادها أن الاقتصاد الوطني الذي ظل ينمو بشكل مطرد منذ مطلع الألفية وبمعدل سنوي «7.5%» هو الآن يتعرض لنكسات خارجية وداخلية بدأت في العام «2006م» وهو بداية تنفيذ اتفاقية نيفاشا التي منحت الجنوب «50%» من مجمل إنتاج البترول المنتج في جنوب السودان وبذلك فقدت الموازنة العامة نصف العائد، ومما زاد الطين بلة أن الجنوب كان يقوم بتحويل نصيبه إلى بنوك خارجية ولم يسمح لبنك السودان بالاحتفاظ بها، كما أن الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم في العام «2008م» رغم أنها لم تحدث أثراً سالباً ملموساً في طورها الأول لكنها في طورها الثاني أثرت على القطاعات الإنتاجية في أوروبا وأمريكا مما أدى إلى تقليص الطلب على البترول فانخفضت أسعاره وحدث انكماش نسبي في الدول النامية وانخفض الطلب الخارجي لسلعنا الصادرة وانخفضت التدفقات الخارجية (منح ، قروض، وتحويلات مغتربين).. وبظهور نتائج استفتاء الجنوب وانفصاله اكتملت الناقصة وفقد الاقتصاد الوطني «70%» من إنتاج النفط والذي كان يمثل ما بين «80%-90%» من إجمالي عائدات الصادرات السودانية ويمثل «55%» من إيرادات الحكومة الاتحادية!! حاولت الحكومة سد الفجوة الإيرادية بإعلان البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي لكنه فشل لعدة أسباب برغم أنه برنامج طموح وكان بإمكانه خفض الإنفاق ورفع قدرة الإيرادات وتوجيه كل الموارد المتاحة في الموازنة لدعم الإنتاج والقطاعات الإنتاجية الحية والأساسية في الزراعة والصناعة والإنتاج الحيواني، وذلك لزيادة حجم الصادرات بدلاً من الاعتماد على البترول والذهب الذي هو الآخر ظلت الحكومة تشتريه من صغار المنتجين بسعر السوق الموازي حتى لا يضطر المواطنون إلى تهريبه للخارج وليباع صادرًا ويتم عبره استجلاب دولار وعملات حُرة لمقابلة احتياجات البلاد الأخرى الضرورية!! ما تقوم به الحكومة الآن من رؤية لإعادة التوازن بخفض الطلب الكلي للسلع والخدمات وزيادة الإنتاج من السلع والخدمات هو أمرٌ ربما يحقق الاكتفاء والنمو المستدام لكن تواجهه عقبات أهمها أن قنوات ومصادر الاقتصاد الحقيقية بحاجة إلى تطهير وترميم لا ينتهي بصورة متعجلة إذا أردنا مردوداً إيجابياً يسهم في الاستقرار الاقتصادي وخفض التضخم، أمر آخر مهم جداً وهو أن أمر الإصلاح الاقتصادي قضية وطنية لا تتحمل أن يتناطح عليها الحكومة والمعارضة وتصبح مادة سياسية تتبادل فيها الرسائل، لأن الكل يتابع حوار الحكومة مع المعارضة وفشل المعارضة في الإجابة عن السؤال العريض الذي طرحته الحكومة عليها ومفاده ما هو المخرج من الوضع الاقتصادي الان؟!؟ سؤال يبدو أنه طرح مكرراً للمعارضة؟؟! ولم تجد الحكومة إلا مزيداً من المخاوف والسخرية بما يزيد الواقع سوءاً.. المصيبة أن الحكومة وبعد خمسة وعشرين عاماً من الحكم من خلال البيان الأول لثورة 30 يونيو 1989م وما حواه من حال المعارضة وما تتعرض له البلاد وقتها من دمار وهزات كما أن المعارضة نفسها أعلنت فشلها في السابق والآن عبر تصريحات مشهودة، فهي ليست جديرة بتقديم روشتة لعلاج مشكلات الحاضر ولا حتى رسم خريطة جديدة وصياغة المستقبل، والشعب السوداني بات يشكك في نواياها وازداد شكاً ويأساً عندما ذهبت الحكومة تسأل المعارضة المتحفظة على كل شيء تحت غطاء الخلاف السياسي، إذن الحكومة مطالبة بطرق أبواب أخرى وبدائل جديدة عبر الاستمرار في سياسات متكاملة ومتناسقة تراعي ما يعانيه الشعب وليس المعارضة لأن مجمل ما لحق بالبلاد واقتصادها سببه الترضيات والأزمات السياسية لأن أي حديث الآن عن خفض الإنفاق الحكومي والاستيزار يمثل مهددًا يمس السياسيين بشكل مباشر وهو محل اعتراض ورفض بل التقليل من نسبة عائدات خفض الإنفاق الحكومي الخديعة الكبرى والأزمة الحقيقية هي ليست عدم قدرة الدولة على الاستمرار في شراء المواد البترولية بسعرها العالمي وهو مائة دولار «في المتوسط» للبرميل وبيعه بسعر 50 دولارًا للبرميل أي سعر البيع «50%» من القيمة الحقيقية للجالون وهو حجم الدعم للمحروقات الذي شكل ضغطاً على الموارد من النقد الاجنبي تنوي الحكومة رفعه بجانب دعم القمح، أبداً هذا ليس التحدي ولكن التحدي من وجهة نظري أن تصبح الدولة كلها حكومة ومعارضة وشعبًا وبكل قطاعاتها العامة والخاصة يصرخون من خطورة رفع الدعم ويُظهرون الدولة في نوع من الخمول وكأنها مرتكزة في أساسها على هذا الدعم لهو أمرٌ فاضح أن يتعطل كل شيء وبسذاجة تظهر بلادنا مشلولة والمعارضة تبحث عن موطئ قدم عبر نافذة رفع الدعم والحكومة توقف كل شيء حتى تقنع الناس بأن الدعم ضار على الموازنة بهذا الحجم لا يمكن الاستمرار عليه تاركة كل العمل المختص الذي تقوم به بقية المؤسسات وتقليص كل الإيجابيات، لتقول الحكومة ليس لديَّ أي هم غير رفع الدعم عن المحروقات الذي أشعل النيران داخل مكوِّناتها قبل أن تُخرجه للعلن، وأن يتم تأجيل جلسات مجلس الوزراء لمرتين ربما يأتي هذا بتأثير عكسي ينعش جسد المعارضة الذي مات ويجعل له صيتًا بعد أن خبا وانطفأ صوتها.. الخديعة الثانية جاءت من البرلمان الذي ربما يفترض بعض نوابه في الشعب والسياسيين الغباء وعدم الذاكرة عندما يخرج أحدهم وببطولة زائفة ليقول البرلمان يعترض على رفع الدعم، برغم أن البرلمان نفسه هو الذي أجاز البرنامج الثلاثي لإنقاذ الاقتصاد والذي من بين مفرداته رفع الدعم عن القمح والمحروقات على أن يتم بالتدريج وليس رفعاً كلياً مرة واحدة وبدأ تنفيذه في المرحلة الأولى لكن البرنامج الثلاثي نفسه انهار كما أسلفت ولم يحقق أهدافه لأنه كان مبنياً على موارد متوقعة ولم تتحصل لأن التطورات الأمنية مع دولة الجنوب وفي النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور عطلت مشروعات الزراعة وحركة صادرات الثروة الحيوانية وخلفت أثاراً سالبة على مجمل القطاعات الإنتاجية كما زادت معدلات حجم الإنفاق نموذج فاتورة تكلفة الحرب ودعم الأجهزة الأمنية، وهذا بدوره انسحب على مجمل ما وُضع من برامج وخطط لتصحيح الوضع الاقتصادي بكل تفاصيله بدءاً من تحريك قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار والعملات الحُرة الأخرى وزيادة الإيرادات الأخرى.. الآن جزء كبير من المؤثرات السالبة على الاقتصاد الوطني بدأت في الانحسار أهمها تحسين العلاقة مع دولة الجنوب التي كانت دخلت منعطفاً خطيراً بدعمها وإيوائها للمتمردين وما تشكله من مهددات أمنية، بقي أن تؤخر الحكومة إجراءات رفع الدعم إلى أجل قادم وتشرع في حلول سياسية تؤمن بها جبهات الاحتراب والاختراقات الأمنية التي استنزفت موارد وقدرات البلاد، كما أن الحكومة معنية بوضع ضوابط محكمة تحد بموجبها من عمليات تهريب السلع المدعومة إلى إثيوبيا وإريتريا ودولة الجنوب وتشاد لأن كثيرين يشترون القمح من السودان بسعره المحلي المدعوم والمحروقات وتهرب إلى هناك، إجراءات كهذه ربما تعيد الأمل للمواطن الذي تراجعت طموحاته إلى حدٍ مخيف وبلغت درجة أن كل آمله أن يترك له الدعم على البنزين والقمح لما يمثلانه من أهمية عندها لا حاجة له بإيرادات نفط الجنوب والتجارة وفتح الحدود بعد تحسن العلاقات الودية بين البلدين.. كما أن على الحكومة وهي تمضي في هذه المعالجات أن تبتعد عن حافة الهاوية وهي.. «المعارضة»..!!