لعل الصورة التي ظهر بها الفساد على الساحة ودرجة تفاقمه المهول أدى إلى ترسيخ قناعة وسط الناس والمهمومين بضرورة ملاحقته من قبل السلطات بأنه شب وخرج عن الطوق، وأصبح وجهة قائمة بذاتها تعبِّر عن واقع الحال في السودان، وقد كثر الحديث منذ ما يقارب العامين عن الفساد بشتى أنواعه سيما المالي منه، وارتفعت الأصوات المنادية بضرورة محاربته وتقديم المتورطين إلى محاكمات عادلة واسترداد ما تم أخذه بغير وجه حق. جاءت هذه المطالبات عقب الزيادات المتواصلة لحجم الاعتداءات على المال العام بحسب تقرير المراجع العام الذي يقدمه آخر كل عام يكشف فيه عن مزيد من حجم الفساد واستمرار عمليات الاعتداء بما يشير إلى ضعف آليات الرقابة التي تحكم المحافظة على المال العام والضعف في تنفيذ القوانين الرادعة للمفسدين والمخالفين إلى جانب ظهور ما يسمى بالفساد المحمي بالنفوذ وهو الأخطر على الإطلاق وهو وجود مفسدين ومخالفين ذوي سلطات واسعة تملك الحل والعقد وتهيئ الأجواء وتوفر فرص نمو بذرة الفساد. لكل هذه الدواعي كثر النقد والحديث عن استشراء الفساد وداعميه الأمر الذي جعل الرئيس يكوِّن آلية لمحاربة الفساد برئاسة الطيب أبوقناية العام الماضي غير أن هذه الآلية لم يُكتب لها النجاح ومُنيت بالفشل الذريع عندما اصطدمت بحوائط فساد «أسمنتية» فأجهضت حلم محاربة الفساد عبر هذه الآلية. الآن ومع موجة التعديل الوزاري وتشكيل الحكومة الجديدة وبذات الحماس تعهد المشير البشير بأن المحاسبة ستطول الجميع متوعداً كل من ارتكب جرماً أو اعتدى على حق «المال العام» بالمحاسبة، وذلك خلال اجتماعه بالهيئة البرلمانية لنواب الحزب الحاكم، حيث كشف لهم عن وجود عملية إصلاح ومراجعة شاملة حقيقية ستطول كل الجوانب ومن بينها المفوضيات والهيئات العليا والشركات الحكومية أو التي تشارك فيها الحكومة. وتحدى الرئيس البشير بحسب مصادر «الإنتباهة» كل من يمتلك وثائق تثبت تورط أي مسؤول سابق أو حالي أن يقدمها متعهداً بمحاسبة من يثبت تورطه في أكل الحق العام الشيء الذي اعتبره بعض المراقبين بأنه تعهد جديد يتماشى مع التغيير ومتطلبات المرحلة الجديدة التي تدخلها البلاد بعد التغييرات التي حدثت. وتعهُّد الرئيس، بحسب مراقبين، يعدُّ بمثابة ثورة لمحاسبة أكلة المال العام الذي أحدث «ربكة» في فترة من الفترات وجدلاً كثيفًا حول كيفية التعدي لملفات الفساد في بعض المؤسسات مما أثار جدلاً كثيفًا داخل البرلمان وأروقة الحزب الحاكم بإسناد بعض القضايا لإدارة كاملة بوزارة العدل، وشُكِّلت لجان تحقيق للنظر في بعض قضايا الفساد، وطالت المحاسبة أشخاصًا قياديين بالمؤتمر الوطني والحكومة مثل قضيتي الأوقاف والأقطان اللتين ما زالتا ينظر فيهما داخل المحاكم. ويقول بعض المراقبين للعمل السياسي وشؤون إدارة الدولة إن تعهُّد البشير جاء بعد دخول الحكومة في مرحلة جديدة تتطلب مزيداً من الحسم لعدد كبير من القضايا والملفات الشائكة التي ظلت عائقاً أمام الإصلاح الشامل، ويرى بعضهم أن كثيرًا من ملفات الفساد أثارت جدلاً واسعاً وأخرى ظلت بعيدة عن النور ولا ندَّعي أن كل من يمسكون يعملون بتجرد «100%» لأنه قد يتسرب لاستغلال سوء الإدارة في العديد من أوجه الفساد، وأشار هؤلاء إلى حديث رئيس الجمهورية أنه أراد به أن يقف أمام القضية وهي رسالة للشعب السوداني مفادها أن جذوة التصدي للفساد لم تنطفئ ولم ينسها وأنهم ماضون في محاربته خاصة الذي يرتبط بمسائل اقتصادية وأنه لا بد من محاسبة حقيقية وذلك بالكيفية التي يتم من خلالها التصدي للفساد والاعتراف والتعاون بكشف الملفات لأن الانكماش يمنح الآخرين كروتًا جديدة لممارسة السكوت عن الفساد. وأضافت نفس المصادر أنه إذا كانت الحكومة تمتلك آليات جديدة للحد من الفساد بعيداً عن أجهزة الإعلام فلا غضاضة في ذلك، ولكن ألّا يرى الناس محاسبة واضحة وعدالة ناجزة في الفضاء فهذا يولِّد الشكوك لأن أموال الحزب هي أموال للشعب والمحاسبة يجب أن تكون علنية، مشيرين أن الحزب الذي يملك الشجاعة للتصدي للمفسدين وإرجاع الحق لذويه فهو بكل المعايير حزب جدير بالاحترام طالما أنه يحمل مبدأ الشفافية في المحافظة على المال العام ووضع حد للمتجاوزين. ورغم أن الكثيرين قد تحدثوا عن قضايا الفساد المالي والإداري والفساد المرتكب بحق المال العام إلا أن هذه القضايا تعتبر من الجرائم المتجددة التي تستدعي جراحة مجهرية «خاصة» ومبضعًا لن يستنكف الطبيب عن استعماله لمعالجة هذا الداء المستبطن الذي أعيا مداويه. فكم من وزارة كملت، وخزينة أفرغت، ومؤسسات هجرت، دون أن تجد العناية والقرار الحصيف مما ظل يثير بدوره حفيظة الكثير من «المحروقين» والمكتوين بهذه النيران والمهتمين أيضاً بضرورة إعمال العدالة التي تظهر اليوم في صور للمكافحة، ونتمنى أن تكون هذه المرة جادة من قبل السلطات المسؤولة قتلاً للامبالاة التي أدت إلى إحداث قناعة محتمة وسط المواطنين صورت من خلاله الفساد بالغول الكبير الذي لا يمكن الانتصار عليه ومحاربته فهل يستعصي على قرارات الرئيس هذه المرة أم أن عجلة التغيير والوجهة الجديدة ستتمكن منه وبالتالي يمكن إحراز واقع ووضع جديد يبشر بسودان جديد خالٍ من الفساد؟.