تخطيط التنمية الإقليمية أو المحلية بغرض تطوير المجتمعات الريفية وإحداث التنمية المستدامة والمتوازنة، أمر لا يحتمل الاستهلاك السياسي ولا الشعارات التي تهدف لكسب أصوات المواطنين في انتخابات التنافس الحزبي عند احتدام الصراع السياسي لسياسة الناس وقيادتهم بكراسي الحكم. أدبيات التخطيط الاقتصادي ومفاهيم التنمية والنمو المستدام، تتحدث عنها نظريات أكاديمية كثيرة تعرض لها علماء الاقتصاد لتفسير آلية عمل الاقتصاد في التنمية والعوامل المفتاحية في ذلك، فكل عالم ينظر من إحدى الزوايا ويصف الأنموذج الأمثل وعوامله، وتأتي التطبيقات الاجتماعية لتحدث عن رأي آخر كنتاج لنظريات علم الاجتماع التطبيقي، فما ينجح في مجتمع ليس بالضرورة وبنفس المفاهيم والأنموذج أن ينجح في مجتمع آخر، فليست المسألة كالوصفة الطبية ولا القضايا المادية البحتة ولا المنطق الرياضي، فخطة العالم الانجليزي مارشال التي طبقها على الاقتصاد الألماني وأتت بكل ذلك الزخم والنجاح الاقتصادي في ألمانيا فشلت في أندونيسيا تلك الدولة المسلمة من دول العالم الثالث. فهناك عوامل كثيرة إضافة للموارد ورأس المال والعمالة تتفاعل مع الحدث الاقتصادي إيجاباً أو سلباً، تختلف من مجتمع لآخر ومن موقع جغرافي لآخر ومن ثقانة مناسبة أو عدمها، ومن وقت يحتاجه أي مشروع لتنفيذه بالكفاءة اللازمة بعد إحكام الخطة وحشد الرضاء الأهلي والعزم والتوكل، وبالآليات المناسبة، بعيداً عن التسرع السياسي ونوازع السلطة وأحلامها، فما أسسه عبد الملك بن مروان لتدعيم مقومات الدولة العربية الإسلامية بعد التمزق والتشظي الذي حدث للقبائل المختلفة ومحاولته بسط هيبة الدولة وتوحيد الصف، جاء الحلاج والي العراق فزيف ذلك بالغلظة والتسلط والتسرع والامعان في القتل والإذلال حتى ضرب الكعبة بالمنجنيق، وكان من بين القتلى والده الذي يقف في صف عبد الله بن الزبير. مما جعل عبد الملك بن مروان وهو في الحج يتبرأ مما يفعل الحلاج، اذ لم يأمره بذلك، وهذا الحدث التاريخي السياسي الذي جاء استطراداً في السياق يمكن قرأته في المجتمعات الاسلامية والدول العربية اليوم، ولا تحتاج المسألة لجهد في التفسير كما في سوريا ومصر وليبيا....الخ فالمرحلة السالبة واضحة، وقديماً قالت امرأة ذكية وموضوعية أوردها القرآن بعد أن شاورت بطانتها «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون». فجأة من غير مقدمات أو توقع وبين سلسلتين من الصخور «الهضاب» وفي وادٍ صغير ليس فيه غير شجرة واحدة وفي نهار حار، تدلف غزالة الى ذاك الموقع في نفس الوقت الذي هبطت فيه عربتنا. أخذ بنا التعب مأخذاً كبيراً في تلك المنطقة الصخرية بشرق جزيرة بوني، وفي ذلك النهار القائظ ونحن نتجه الى برتي شرق، ولكنها كانت لحظة اقرب الى الخيال، فتمثلت لنا الحياة بجمالها وألقها وجدها وكدها مهما كانت الظروف في تلك الغزالة الجميلة التي كانت تبحث عن ظل شجرة تستظل بها من الشمس في ذلك اليوم الحار، لتعاود الكر والفر وحركة الحياة الدؤوبة في تناغم بيئي.. الإنسان والنيل والصخر والغزال والنخلة أجزاء من مكوناته. وكنا نبحث نحن عن مشروعات التنمية الزراعية لأهلنا في الخيار المحلي في أرض المناصير. كنت على رأس وفد أرسله وزير الزراعة جبريل عبد اللطيف بتوجيه من الأخ الوالي البروف المجذوب، وبعد الزيارة المشهودة التي قام بها الأخ الرئيس لمنطقة المناصير ومخاطبة ذلك الحشد الكبير بمنطقة سوق السلامات غرب شري، وإعلانه احترام الدولة للخيار المحلي للمناصير. ومن هنا تنبع أهمية الجوانب الاجتماعية والثقافية لأية خطة اقليمية أو محلية، وضرورة تجويد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية لمثل هذه المشروعات الحساسة المستهدفة للإنسان وبالإنسان. لقد كنت من الذين حضروا لقاءات جماهيرية كبيرة بغرض أخذ رأي أهلنا المناصير في الخيارات المطروحة، وكانوا ينقسمون الى محليتين شري والكاب، ومن الناحية المبدئية الأولية كان أهل شري يفضلون خيار المكابراب لقربه من أهم المواقع الحضرية في ولاية نهر النيل الدامر، عطبرة، بربر، ولهم علاقات اجتماعية وأسرية بتلك القرى حول تلك الحواضر. وكنا نشجع أهل منطقة الكاب على ذلك الموقع وبذات المنطق المقبول عقلياً، إلا أنهم أصروا على منطقة الفداء أو كحيلة شرق، ولكن هل سارت الأمور كما تشتهي السفن؟ لقد تفاعلت العوامل الاجتماعية والإثنية وتدخل التاريخ والعقل الجمعي فأفرزا معطيات جديدة من بينها هل توجد مواقع زراعية يمكن أن تفي للمواطنين بحقهم في العيش الكريم في المنطقة بعد ظهور البحيرة وغرق القرى والمشروعات الزراعية القديمة؟ وهذه التفاعلات يفترض دراستها ووضعها في الحسبان منذ البداية بالرغم من افتراض النيات السليمة لواقع افضل يمكن أن تمثله المدن الجديدة التي بنيت في الفداء والمكابراب والمشروعات الزراعية الضخمة فيهما «56» ألف فدان في المكابرات و «40» ألف في الفداء، إلا أن الواقع يقول إن 70 في المائة تقريباً من المنازل المجهزة أصبحت فارغة بسبب عدم التفاعل الاجتماعي الإيجابي مع تلك الخطة، وأصبحت إنفاقاً مالياً كبيراً لم يصب هدفه، وتشبهها في ذلك خطة والي البحر الأحمر في تغيير حياة البسطاء من المواطنين الرحل بإقامة منازل مهيأة لهم، ولكنهم تركوها وبنوا جوارها بيت السعف والجريد والحطب، وأصبحت المنازل الجميلة مخازن أو فارغة. لقد كان أستاذنا الراحل بروف كمال عقباوي مدير عام مشروع الجزيرة في العهد المايوي وأستاذ إنتاج المحاصيل بكلية الزراعة شمبات بكل خبراته المهولة في تخصصه وفي التنمية الريفية وفي مبادئ الزراعة، يكرر وبقوة على عامل المحلية في التخطيط والعمل التنموي، ومراعاة ذلك حتى في الأصناف الزراعية، فالذرة في القضارف لا تنفع في نهر النيل والذرة في شندي تختلف عنها في بربر وتختلف في ابو حمد بهذه المحلية الموغلة في التنوع وفي ولاية واحدة، ولذلك هناك فرق كبير بين التخطيط القومي والتخطيط الاقليمي والخريطة الاستثمارية القومية والخرائط الولائية، ولكل دوره ومتطلباته ومعطياته، وبالرغ من التأخير الذي حدث في تأسيس الخيار المحلي بمنطقة المناصير لأن المال المعتمد ذهب لمواقع اخرى منذ البداية، إلا أن الصبر الاجتماعي الجميل ينبغي أن يكافأ لانسان صادق في توجهه تسبقه مواقفه ودماء شهدائه التي سالت لهذا البلد الأمين، لقد كانت الرحلة إيجابية والمواقع حددت وبدأ العمل فيها، وتم افتتاح «1000» منزل جديد بالخيار المحلي، والحق يقال أنهم أكرمونا واحترمونا بوصفنا وفداً رسمياً غاية الاحترام، وكانت زيارتنا كأنها رحلة تطبيع اجتماعي وسياسي رغم صعوبة المنطقة وضيق المساحات الزراعية، إلا أن الإنسان يمكنه أن يحدث التغيير ويقود التطور كما حدث في اليابان الجبلية!! ونحن نودع المنطقة من كبنة عبر الصحراء الى الكديق غرب الشريك بالرباطاب في صحراء بيوضة القاحلة لا عربة لا بشر لا حركة إلا بعض الحشائش البسيطة والفيافي الواسعة تقطع عربتنا في ذلك الشارع الصحراوي غير المطروق الا بعض المجازفات النادرة، وبعد ساعتين تقريباً تظهر جبال مناطق الرباطاب ثم النخيل الباسق بعدها، لندرك منطقة مشهورة هناك «الكدق» أو «سوق الأربعاء»، وعلى مقربة من بنطون الشريك تظهر علامات السد الجديد المقترح.. فهل نعيد نفس الموال؟ وفي تجربة أخرى نلتقي.